طلب فتوى
الفتاوىغير مصنف

توجيه الطبيب في المصحات العامة المرضى إلى المصحات الخاصة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (3269)

 

ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:

قبل إجراء عملية القسطرة القلبية، يتم فحص المريض؛ للتأكد من وجود تضييق أو انسداد في الشرايين، ومدى حاجة المريض لدعامة أو أكثر، وبعد التشخيص؛ يتم التفاوض مع المريض أو أهله على سعرِ العملية، وأحيانًا يتم التفاوضُ والمريضُ على سرير جهازِ القسطرة، مما يسببُ الإحراجَ للطبيبِ المعالج، ويحول المعاملة إلى نوعٍ مِن المساومة والتجارةِ، فهل هذا جائزٌ، أم هو نوعٌ مِن الاستغلال المنهيّ عنه؟ حيثُ إن المريضَ أحيانًا لا يملك إلا ثمَن الفحصِ والتشخيصِ، وهو في حدودِ (2000-2300 د.ل)، وفي حالِ احتياجِ المريض إلى دعامةٍ واحدةٍ، فإنّ السعرَ قد يصلُ إلى ثلاثة عشرَ ألفَ دينار.

كذلك قد يقرر الطبيب بعد الفحصِ، أنّ المريض يحتاج إلى دعامةٍ واحدة فقط، ولكن قد تحدثُ تغييرات مفاجئةٌ في الشرايين، يحتاج معها المريضُ إلى دعامةٍ أخرى أو أكثر، وليس ذلك نتيجةَ خطأٍ طبيّ، ولكنها مضاعفاتٌ معلومة، تحصلُ بسبب عملية القسطرة، وأحيانًا بسبب عمليةِ الفحص (القسطرة التشخيصية)، وهي لا يمكنُ معرفتها قبلَ الفحصِ أو العمليةِ، وهنا تتغيرُ وترتفعُ التكلفةُ المطلوبة، إلى سعرٍ أعلى مما تمّ الاتفاقُ عليه قبلَ العملية، فما حكم ذلك؟ وما الذي يمكنُ أن يوجّه إلى المسؤولين ومن يعنيهم الأمرُ، في أماكنِ العلاجِ المجاني والمستشفيات، الذي أصبح شبه متوقفٍ، بسببِ الإهمال وعدمِ الإمكانات، فمثلًا؛ عمليةُ القسطرةِ تُجرَى مجانًا في القطاعِ العام، ولكن يحتاجُ المريضُ إلى أربعةِ أو خمسةِ أشهرٍ في انتظارِ دوره، وهناكَ مرضَى يحتاجون لعمليةٍ مستعجلة، للحفاظ على عضلةِ القلبِ من الضعف، وتجنبِ فشلِها، المؤدي إلى مشاكلَ صحية واجتماعية ومالية، بعجزِ المريضِ عن التكسبِ، بل قد تحصلُ مضاعفاتٌ تؤدي إلى الموت، ولا يمكنُ التنبؤ بذلك؛ لأنّ كلّ مريضٍ بالقلبِ يعتبرُ حالةً مستعجلةً طبيًّا، فما حكم قيام الطبيب بتوجيه المريض إلى المصحاتِ الخاصةِ، بطريقةٍ مباشرة، أو غيرِ مباشرة؟

نريدُ تفصيلًا شافيًا من دار الإفتاءِ في هذه المسألةِ.

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإنّ الأطباءَ مؤتمنونَ على مهنتهم، والشأنُ في أصحابِ هذه المهنةِ أنّهم قبلَ البدءِ في مزاولتِها يقسمونَ يمينًا، على أنْ يؤدُّوا المهنةَ على الوجهِ الذي يرضي اللهَ، وبما تقتضيهِ الأمانةُ، والالتزام بقانون المهنةِ، وما يمليهِ الضميرُ مِن الحرصِ على مصلحةِ المرضَى وسلامتِهم.

كما أنّ هذه المهنةَ تتطلبُ مِن أصحابِها – وهم الأطباء والطواقمُ الطبية – كمالَ النصحِ؛ لأنّها تتعلقُ بحياةِ الناسِ، التي يهونُ عندهم دونَها كلّ ما يملكونَ مِن نفيسِ المالِ.

وإذا كان بذلُ النصح لكلِّ مَن طلبه من المسلمينَ واجبًا، فبذله مِن أصحابِ هذه المهنةِ أوجَبُ، ففي صحيحِ مسلمٍ مِن حديث تميم الداري رضي الله عنه، أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (الدينُ النصيحةُ) قلنا: لمن؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [55]، ومن تمام النصح المطلوب للتخفيف عن الناس، وخاصةً المحتاجينَ من الفقراءِ وذوي الدخلِ المحدودِ؛ أنْ يعتني الأطباءُ والاستشاريونَ وأصحابُ التخصصات الدقيقةِ، وكذلك كلُّ مَن يعنيهم الأمرُ مِن المسؤولينَ على العلاجِ المجانيِّ، أنْ يعتنوا بالمراكز العلاجيةِ المجانيةِ؛ بأن يقومُوا بإصلاحِ ما تعطلَ منها، كمتطلبات القيام بالعمليات، وتشغيلِ معامل التحليلِ والتصوير التشخيصي، والعنايةِ بها، وعدمِ إهمالها أو تعطيلِها، وذلك لتصلَ الخدمةُ المجانيةُ لعامةِ الناسِ بانتظامٍ، وبصورة دائمةٍ، حتّى يخففوا عنهم أعباءَ تكاليفِ العلاجِ الباهظةِ، التي صارتْ لا تُطاقُ، بسببِ التدهورِ الحادِّ للعملةِ المحليةِ، وأنْ يكونَ سعيُ كلّ من يعنيهم الأمرُ ممن ذُكر، بما فيهم الأطباءُ، في الحفاظِ على تقديم هذه الخدماتِ دؤوبا متواصلًا، لا يملّ ولا يكلّ، كحرصِهم على العنايةِ بمصحاتِهم وعياداتِهم ومشاريعِهم الخاصةِ؛ لأنّ هذا هو مقتضى النصحِ، الذي أوجبَهُ الله عليهم لمنْ طلبَه مِن عامةِ الناسِ، لا أنْ يتهاونوا في أداء عملهم في المراكز المجانيةِ، وينشطوا له في المصحاتِ والمشاريعِ الخاصةِ، مهما كانت الصعوباتُ.

فصبرهم على تفعيل العلاجِ المجاني في هذا الوقت الحرجِ، غُنمٌ كبيرٌ لمن سعَى فيهِ، لا يُقدر بثمنٍ، فإنّ الوقتَ وقتُ تمحيصٍ واصطفاءٍ، لمن اختارَه اللهُ للمنازلِ الكريمةِ، والدرجاتِ الرفيعة، فمن صبرَ على ذلك، وأدّى ما اؤتمنَ عليه، مِن المسؤولينَ ومن الأطباءِ – بأنْ هوَّنَ على الناس أمرَهم، وفتحَ لهم هذا الخيرَ وأنصفَهُم، وأوصَلَ لهم حقوقَهم التي حُرِمُوها – بشَّرَهُ النبيُّ صلّى الله عليه وسلمَ بالأمنِ التامِّ يومَ الفزعِ الأكبرِ، بشرَهُ بمنابرِ النورِ يوم القيامةِ، على يمينِ الرحمنِ، ففي صحيح مسلمٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا) [1872]، وفيه أيضًا، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [2699].

والتهاون من الأطباءِ أو من المسؤولينَ ومَن يعنيهم الأمرُ، بتعطيلِ مراكزِ العلاجِ المجانيةِ، كمعامل التحليل والتصوير التشخيصي، أو ما يتطلبه إجراء العمليات الجراحية، سواء كان بعدم توفير المال اللازم، أو إعاقتها، أو بإلزام الأطباءِ المرضَى أن يتجهوا إلى العيادات الخاصةِ، مع إمكانية إجراءِ العمليات في الأماكن العامة، كلُّ هذا يُعدُّ مِن الغشِّ في المهنةِ، وفِي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي) [102]، وكل ما يترتب على ذلك من تداعياتٍ، تعرضُ حياةَ شريحةٍ من المرضى للخطرِ، ممن قصُرت بهم النفقةُ عن العلاجِ الخاصّ، وحُرموا مِن العلاجِ العام، سيُسألُ عنهم عندَ الحسابِ كلّ مَن حَرَمَهم مِن حقهم في العلاج المجانيّ، أو ساعدَ عليه، وذلك بحسبِ مسؤوليته وتقصيره، من الطبيبِ إلى المدير إلى الوزير، إلى مَن يتحكمون في أموالِ الأمةِ، الذين يتساهلون في صرفِها على شؤونهم الخاصةِ، ومرتباتِهم العاليةِ، ويحرمون منها مَن عرّضوهم للموتِ بسببِ حرمانِهم مِن حقوقهم، كلُّ واحدٍ ممن ذُكر يُسألُ بحسبِ مسؤوليتِهِ، قَلَّت أو كثُرت، عندَ علَّام الغيوبِ، الذي لا تخفَى عليه خافية.

أمّا إذا اختار المريضُ مِن نفسهِ أنْ يتجه إلى العلاجِ الخاصّ، فلهُ ذلك، وفِي هذه الحالةِ ينبغي أن تكونَ الأجرةُ واضحةً ومفصلةً تفصيلًا كاملًا، فيما يخصُّ كلَّ جزئيةٍ مِن جزئياتِ العلاج، بأن يُبينَ للمريضِ الآتي: تكلفةُ الإقامةِ والدواءِ، وأجرةُ غرفةِ العملياتِ، وطبيبِ التخديرِ، والطبيبِ الذي يقومُ بالعملية، والموادِّ التي تتطلبُها العملية، ثم الاحتمالات الطارئةُ وما تكلِّفُه، كل ذلكَ يوضعُ له سعرٌ محددٌ، ينبغي أن يكونَ معلَنًا للمريضِ، في نموذجٍ مطبوعٍ، يطلعُ عليه المريضُ مِن أولِ زيارةٍ للطبيب، وبذلكَ يكونُ التعاقدُ على التداوِي صحيحًا شرعًا، فيستريحُ المريضُ بدخولِهِ على عقدٍ لا جهالةَ فيه، وتأخذُ المصحةُ والطبيبُ ما يأخذانِهِ حلالًا طيبًا، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

أحمد محمد الكوحة

أحمد ميلاد قدور

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

27/رجب/1438 هـ

24/إبريل/2017م

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق