أسئلة تتعلق بالبيع والإيجار والمرتبات وإغلاق المَحال في ظل وباء كورونا
أسئلة تخص المعاملات التجارية في زمن كورونا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4172)
السيد/ عميد بلدية (ج).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تحية طيبة، وبعد:
فبالإشارة إلى مراسلتكم المتضمنة عدةَ أسئلة تتعلقُ بالحظر المفروضِ لاحتواء وباء كورونا، فالأحكام الشرعيةُ لتساؤلاتكم كالتالي:
السؤال الأول:
ما حكم رفع نسبة الربحِ في ظلِّ هذه الجائحة في البضائعِ الأساسيةِ؛ كالغذاء والدواء، ما ينتجُ عنه غلاء أسعارها؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن كانت هذه السلع مستوردة باعتماد من الدولة، فليس للتجار المتحصلين على هذا الاعتماد، الزيادة في نسبة الربح المتفق عليه؛ وذلك لكونِ البضاعة مسعرةً مسبقًا من وزارة الاقتصاد، بدليلِ أنّ التاجر لا يستخرجُ البضاعة من الميناء حتى يأتيَ بتسعيرةٍ من وزارة الاقتصاد، ولأنّ الغرض من هذه الاعتمادات هو تخفيفُ المعاناةِ على الناس، وتوفيرُ السلع والحاجياتِ لهم بالسعر المخفضِ، فلا يجوز للتجار مخالفةُ الشروط التي وُضعت لهم، لأنّهم قَبِلوا الاعتمادَ بالقيودِ والشروطِ الموضوعةِ له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمونَ عند شروطِهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا) [أبوداود:3594].
وأما السلع التي لم تُجلب عن طريق الاعتمادات، فعلى أصحابِها أن يتقيّدوا بالنسبة المعتادةِ للربحِ بين التجارِ، وخاصةً في مثل هذه الجائحة، التي ألقت بظلالها على بلدنا والعالم أجمع، فإنْ ظهر منهم الغلاءُ الفاحشُ، والطمعُ في استغلالِ حاجاتِ الناسِ؛ فللجهات المختصة تحديدُ أسعارِ السلعِ بما يحفظُ حقَّ التجار والمواطنين؛ لرفع الضرر عن العامةِ، فالضررُ يُزال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضَرَر ولا ضِرارَ) [الموطأ:2184]، قال ابن العربي عقب حديث أنس رضي الله عنه، في امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير: “والحقُّ التسعِيرُ، وضبطُ الأمرِ علَى قانونٍ لا تكونُ فيه مظلمةٌ على أحدٍ من الطائفتينِ، وذلك قانونٌ لا يُعرفُ إلَّا بالضبط للأوقاتِ ومقاديرِ الأحوالِ وحالِ الرجال … وما قاله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم حقٌّ، وما فعله حكمٌ، لكن على قومٍ صحَّ ثباتهم، واستسْلموا إلى ربِّهم، وأمَّا قومٌ قصدوا أكْلَ الناسِ والتضييقَ عليهم، فبابُ الله أوسعُ، وحكمهُ أمضَى” [عارضة الأحوذي: 54/6].
فمسألة التسعيرِ وقت الأزماتِ مسألةٌ أخلاقيةٌ شرعيةٌ، لإزالة الضرر العام، بتحملِ الضررِ الخاصّ، وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن الاحتكارِ، وتوعَّدَ المحتكرين بأشدِّ العذابِ، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحتكرُ إلّا خاطئٌ) [مسلم:1605]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الجالبُ مرزوقٌ، والمحتكِرُ ملعونٌ)[ابن ماجه:2153]، ورُويَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قالَ: (مَن احتكرَ على المسلمينَ طعامًا ضربَهُ اللهُ بالجذامِ والإفلاسِ) [ابن ماجه:2155].
عليه؛ فلا ينبغي رفع نسبة الربح، سواء كانت البضائعُ مستوردةً باعتمادٍ أم لَا، وإن حدثت هذه الزيادةُ وأدَّت للغلاءِ، فعلى المسؤولينَ التدخل لضبطِ الأسعارِ وتحديدِهَا، وينبغي على التجارِ – خاصةً في مثل هذه الظروفِ – مراعاةُ حالِ الناس، والرأفة بهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ارْحَمُوا مَن فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُم مَن فِي السَّمَاءِ) [الترمذي:1924]، والله أعلم.
السؤال الثاني:
ما حكم إيقاف مرتّبات العاملين في القطاع الخاص، لتوقف نشاطات المحالّ التجارية، بسبب إجراءات الوقاية مِن هذا الوباء؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنّ العقدَ بين العاملِينَ في المحالِّ التجارية وأصحاب المحلّات هو مِن قبيلِ الإجارةِ، والأجيرُ إنما يستحقّ أُجرته في نظير عمله، أو تفريغِه نفسه في المدّة المتعاقد عليها، ولو لم يقم المستأجِر بتشغيله، فإذا مُنع العامل من أداء عمله بسبب أمرٍ قاهرٍ، لا يستطاعُ دفعه، كالحظر المفروض من الجهات الإدارية، فليس له حقٌّ في الأجرةِ؛ لعدم وجود عوضٍ في نظيرها، أمّا إن كان المنع من جهة ربّ العمل – بأن كان امتناعه من تشغيل محله ليس بسبب الحظر المفروض عليه وإنما اجتهادا منه من تلقاء نفسه- فإن العامل يستحقّ أجره كاملًا؛ لأنه وفّر نفسه للخدمة، ورب العمل هو الذي منعه، قال سحنون: “إِنْ مَنَعَ أَجِيرَ البِنَاءِ أَوِ الحَصَادِ أَوْ عَمَلٍ مَّا مَطرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا بِحِسَابِ مَا عَمِلَ مِنَ النَّهَارِ”[التاج والإكليل:7/532]، وفي البيان والتحصيل: “قَالَ ابنُ القاسِمِ – في الرّجل يستأجرُ الرّجلَ شهرًا يحرث له، فينكسرُ المحراثُ، أو يموتُ الزّوجُ، أو يمطر فيحتبس اليومَ وما أشبهه – قال: أَمَّا كَسْرُ الِمحْراثِ وَموتُ الزّوجِ فَإِنّ الكِرَاءَ فِيهِ لَازِمٌ؛ لأَنَّ حَبْسَهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ المِحْرَاثِ، وَرَبّ الزّوجِ، وَأَمَّا المَطرُ فَهوَ مَنْعٌ مِنَ اللهِ، وَهوَ بِمَنزِلَةِ المَرَضِ، فَلَيْسَ لِلأَجِيرِ في ذَلِكَ إِجَارَةٌ. قال محمد بن رشد: هَذَا بَيّنٌ عَلَى مَا قَالَ؛ لِأَنَّ المُستأجِرَ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يُعِدَّ زَوْجًا غَيرَهَا، أَوْ مِحْرَاثًا غَيْرَه، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلَ وَجَبَ لِلْأَجِيرِ أَجْرُهُ كَامِلًا؛ لِأَنَّ الحَبْسَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ، بِخِلَافِ المَطَرِ الذي هو مِنَ اللهِ لَا صُنْعَ لِأحَدٍ فِيهِ”[8/492].
عليه؛ فليس من حقّ العاملين في القطاع الخاص أن يطالبوا أرباب العمل بمرتّباتهم، لأن تعذّر استيفاء المنفعة منهم لم يكن لأربابِ العمل دخل فيه، وليس بمقدورهم رفعه، أما ما كان من المحالّ التجارية مستثنًى من قرار الإغلاق، فيستحق العاملون فيها مرتباتهم كاملة؛ لأن المنع كان من جهة أصحاب تلك المحلّات، والله أعلم.
السؤال الثالث:
كثير مِن المواطنين لا يلتزمون بقرار الحظرِ، ولا بالإجراءات الوقائية اللازمة، لمنع انتشار الفيروس بين الناس، فما حكم مخالفة هذا القرار، علمًا أنّ المخالفة قد تؤدي إلى لحوقِ الضررِ بهم أو بغيرهم؟.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنّ التقيدَ بالأنظمة التي يضعُها أهل الاختصاص فيما يتعلق بسلامة الناس من الأمراض ودفع الضرر عنهم واجبٌ إذا كانت مبنيّة على تقارير علميّةٍ موثوقة؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (لا ضَررَ ولَا ضِرارَ)[ابن ماجه:2341]، أما ما يصدر من الجهات الإدارية ذات العلاقة بتقييد حريات الناس ومنعهم من حوائجهم الضرورية بناء على وجهات نظر ليست مبنية على تقارير علميّة موثوقة فإنه يؤدي إلى عكس المطلوب؛ لأن المبالغة في التضييق على الناس بما يمنعهم من حوائجهم الضرورية تؤدي بهم إلى التزاحم والتدافع في الأوقات القليلة المسموح بها التي لا تكفي لقضاء حوائجهم الضرورية، وذلك التزاحم والتدافع من أسباب انتشار الوباء كما هو معلوم من التقارير الدولية العلمية الموثوقة، وأيضا فإنه من المتفق عليه أن من أسباب الوقاية من انتشار الوباء التباعد الاجتماعي وقلة الاختلاط، وهذا هو الواجب على كل الناس التقيّد به؛ لأن التقارير الدولية العلمية الموثوقة كلها تؤكده، والله أعلم.
السؤال الرابع:
ما حكم استمرارِ الملّاكِ فرضَ نفس الإيجار على المحالّ التجارية، رغم تعطلِها أغلبَ الوقتِ أو كله بسببِ قرار الحظر؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنّ الأصل في عقد الإجارة أنّه من العقود اللازمة، فيلزم المستأجر دفع جميع الأجرة إذا تمكن من الانتفاع بما استأجرهُ، ولو لم يستعمله بالفعلِ، قال الدردير: “ولزم الكراء بالتمكنِ من التصرف من العينِ التي اكتراها مِن دابةٍ أو دارٍ أو أرضٍ أو غير ذلكَ وإن لم يستعمل”[الشرح الكبير: 4/50]، فإن طرأ على العقدِ ما يمنع مِن استيفاءِ المنفعة، وكان عقد الاستئجار لهذه المحال وقعَ على مدة محددة، فإنه يجب على المؤجر الحطّ عن المستأجرِ من الأجرةِ، بقدر تعذر استيفائه لمنفعة المحلّ، طيلةَ مدة المنع، بخصم ساعات الحظر، أو بإسقاط الأجرة بالكليّة، إنْ منع مِن منفعته مطلقا -حسب القرار- وذلك متى قام المستأجر وطالبَ بالحطّ، قال الدردير: “وَبِسَبَبِ (مَرَضِ عَبْدٍ وَهَرَبِهِ لِ كَعَدُوٍّ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ فِي بَقِيَّتِهِ) أَيْ الْعَقْدِ أَيْ زَمَنِهِ فَلَا تَنْفَسِخُ وَيَلْزَمُهُ بَقِيَّةُ الْعَمَلِ… وَيُسْقَطُ مِنْ الْكِرَاءِ بِقَدْرِ مَا عُطِّلَ زَمَنَ الْمَرَضِ أَوْ الْهَرَبِ”[الشرح الكبير:4/31]، قال ابن يونس: “كُلّ مَا مَنَعَ الْمُكْتَرِيَ مِنْ السُّكْنَى مِنْ أَمْرٍ غَالِبٍ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَاصِبٍ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَنَعَهُ أَمْرٌ مِنْ اللَّهِ كَانْهِدَامِ الدَّارِ أَوْ امْتِنَاعِ مَاءِ السَّمَاءِ حَتَّى مَنَعَهُ حَرْثَ الْأَرْضِ، فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كله؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى مَا اكْتَرَى” [الجامع:16/198].
وأما فيما يستقبل من باقي مدة العقد، فللمستأجر الخيار بين فسخ العقد أو البقاء بنفس الأجرة المتعاقد عليها ابتداءً، إلّا أن يتطوع المالك بالحط عنه من الأجرة، قال ابن رشد: “أَنْ يُبْطِلَ -أي الهدم- أَكْثَرَ مَنَافِعِ الدَّارِ أَوْ مَنْفَعَةَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ وَجْهُهَا أَوْ يَكْشِفهَا بِانْهِدَامِ حَائِطِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهَذَا يَكُونُ الْمُكْتَرِي فِيهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَسْكُنَ بِجَمِيعِ الْكِرَاءِ أَوْ يَخْرُجَ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَ عَلَى أَنْ يُحَطَّ عَنْهُ مَا يَنُوبُ مَا انْهَدَمَ مِنْ الْكِرَاءِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِذَلِكَ رَبُّ الدَّارِ”[المقدمات:2/216].
فإن انتهت المدة المتعاقد عليها، فلا يجوز الدخول على نفس العقد مِن جديد؛ لما فيه من الغرر في استيفاء منفعة المحل؛ للجهالة بوقت انتهاء الحظر، ولهما أن يأتنفا عقدًا جديدًا، نظير تخزين البضائع بالمحل، قال الزرقاني: “قال الشارح: ومن استأجر رحى ماء شهرًا على أنه إن انقطع قبل الشهر لزمه جميع الأجرة لم يجز اهـ. قال غير واحد من شيوخه: انظر هل يؤخذ منه أن من استأجر أرض زراعة مقيلًا ومراعًا وليس غرضهم إلا أنها إذا لم ترو تلزمه الأجرة أن ذلك لا يجوز، ويكون فاسدًا، وهو الظاهر، ويدل له قول الجزيري في رحى الماء التي لها قناة تجري ما نصه: ولا يجوز ما أحدثه بعض الموثقين من عقد اكترائها على قنوات فارغة تحيلًا لإسقاط القيام بجائحة الماء، قال ابن حبيب: وتلك فجرة واحتيال لا يجوز اشتراطه” [شرح الزرقاني على مختصر خليل: 7/32]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
حسن سالم الشريف
عبد الدائم سليم الشوماني
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
06// رمضان// 1441هـ
29// 04// 2020م