طلب فتوى
الزكاةالعباداتالفتاوى

إجابة عن أسئلة للجنة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمؤتمر الوطني

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (873)

 

السيد المحترم / رئيس لجنة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمؤتمر الوطني العام المؤقت “حفظه الله تعالى” …

                                                            

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تحية طيبة وبعد :

فإنّه بالنظر في مراسلتكم ذات الرقم الإشاري(10-2-358-13)، التي تستفصلون فيها عن أحكام بعض العقود المتعامل بها بين المواطنين والدولة، وبين المواطنين وبعض الشركات، فالجواب على ذلك ما يلي :

أولاً: بخصوص المحافظ الاستثمارية :

      فإن المحافظ الاستثمارية تتضمن – حسب الوثيقة المنظمة لها التي يتم التوقيع عليها من قبل المستفيدين (محدودي الدخل) وصندوق الإنماء – استثمار جزء من أموالها في مصارف ربوية؛ كمصرف الصحاري والوحدة، وفي نشاط غير مشروع كمصنع التبغ، وجزء آخر من أموالها يستثمر في نشاط مشروع كمصانع الإسمنت ونحوها، ويتم ذلك كله في وثيقة عقد واحدة، والحلال والحرام إذا اجتمعا في عقد واحد كان باطلا، كما هي القاعدة الشرعية، وبهذا يتبين أن المعاملة بها محذوران :

الأول: كسب الجزء الخبيث المستثمر في المصارف الربوية، ومصنع التبغ .

والثاني: ضمان أحد الطرفين في التعاقد – وهو صندوق الإنماء – ربحاً ثابتاً للطرف الآخر (محدودي الدخل)، قدره خمسمائة دينار كل شهر، وضمان أحد المتعاقدين في المشاركات للآخر ربحاً ثابتاً، لا يجوز بإجماع أهل العلم.

           لذا، فإنه لتصحيح العقد تأمل دار الإفتاء اتباع الخطوات الآتية:

1- إصدار قرار بتحويل الأموال المستثمرة في المصارف الربوية، ومصنع التبغ، إلى مصانع وقطاعات أخرى، نشاطها مشروع.

2 – أن يصدر قرار من الحكومة، باعتبارها طرفاً مستقلاً عن طرفي عقد المشاركة في وثيقة المحفظة، تتكفل فيه بضمان خسارة الطرف المستفيد (محدودي الدخل)، وذلك في حالة الخسارة، أو ما إذا قل الربح الشهري للمحفظة عن قدر معين، كخمسمائة دينار مثلاً، وبذلك نتجنب مسألة ضمان أحد طرفي العقد للآخر ربحاً ثابتاً، والذي يحرمه أهل العلم بالإجماع، والله أعلم.

ثانياً: بخصوص الضرائب:

         فالأصل أن الحق الوحيد في المال هو الزكاة، فمن أخرج زكاة ماله فقد برئت ذمته، ولا يجوز بعد ذلك التعرض لما في يده من أموال دون حق، ولا يُطالب بشيء، إلا أن يتطوع رغبة في الأجر من الله تعالى؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن أعرابيًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة، فقال: (تعبد الله، ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)، قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا شيئًا، ولا أنقص منه، فلما ولَّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا)[متفق عليه رواه البخاري (1397)، ومسلم(116)]، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (إن صدق الأعرابي؛ دخل الجنة)[رواه الترمذي (622)]، ففي هذا الحديث أعلن الرجل أنه لا يزيد على الزكاة المفروضة، ولا ينقص، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه من أهل الجنة، وعن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أديت زكاة مالك؛ فقد قضيت ما عليك)[رواه ابن حبان (3216)]، ومن قضى ما عليه في ماله، لم يكن عليه حق فيه، ولا يُطالب بإخراج شيء آخر على سبيل الوجوب.

كما أن الإسلام احترم الملكية الخاصة، وجعل كل إنسان أحق بماله، وحرم الأموال كما حرم الدماء والأعراض، والضرائبُ _ مهما يقول القائلون في تبريرها وتفسيرها _ ليست إلا مصادرة جزء من المال، يُؤخذ من أربابه قسرًا وكرهًا، إذا كان بغير حاجة معتبرة شرعاً.  

ولقد جاءت الآيات، والأحاديث النبوية، بذم المكوس، والقائمين عليها، وأكل المال بالباطل، وتوعدهم الله على ذلك بالنار، والحرمان من الجنة، فعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن صاحب المكس في النار)[رواه أحمد في مسنده (17464)]، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)[النساء: 29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) [أحمد (1459)]، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة صاحب مكس)[رواه أبو داود (2939)]، وعدَّ الذهبي المكس من الكبائر، وقال: (المكاس من أكبر أعوان الظلمة، بل هو من الظلمة أنفسهم؛ فإنه يأخذ ما لا يستحق، ويعطيه من لا يستحق) [كتاب الكبائر،الذهبي(112)]. فالمكس من كبائر الذنوب، وأعظم إثماً من الزنا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي زنت، ثم أتت النبي صلى الله عليه وسلم ليقيم عليها الحد: (والذي نفسي بيده، لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس لغفر له)[رواه مسلم (3208)]. قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم(203/11): إن المكس من أقبح المعاصي، والذنوب الموبقات. اهـ، وقال صديق بن حسن البخاري في الروضة الندية (215/2) عن الضرائب التي تؤخذ من المسلمين: ( فهذا عند التحقيق ليس هو إلا المكس، من غير شك، ولا شبهة) اهـ.

إلا أن جمهور أهل العلم أجازوا فرض ضرائب على الناس في حال الحاجة الشديدة إليها بشروط، وهذه بعض أقوال أهل العلم في ذلك، جاء في حاشية رد المحتار عند الأحناف: (زمن النوائب _ أي التي تفرض فيها الضريبة _ ما وظف للإمام ليجهز به الجيوش، وفداء الأسرى، بأن احتاج إلى ذلك، ولم يكن في بيت المال شيء؛ فوظف على الناس ذلك)، ويتابع فيقول: (وينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يوجد في بيت المال ما يكفي لذلك)[حاشية ابن عابدين، (2/336-337)].

وقال الإمام القرطبي المالكي: (واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها)[الجامع لأحكام القرآن، القرطبي(242/2)]؛ والمقصود بالمال هنا غير مال الزكاة، وإنما أُخذ من قوله تعالى: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ}[البقرة: 177]، وقال الإمام مالك: (يجب على الناس فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم) [أحكام القرآن، أبو بكر العربي، (60/1)].

وقال الإمام الغزالي من الشافعية: (إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب، لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامة في بلاد الإسلام؛ جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند)[المستصفى من علم الأصول، الغزالي، (426/1)].

وأما شروط جواز الضرائب فهي :

1- أن تكون حاجة الدولة للمال حاجة حقيقية وضرورية، لا وهمية أو ظنية، بحيث لا تكون هناك موارد أخرى تستطيع الدولة بها أن تحقق أهدافها.

ومما كتبه النووي إلى الظاهر بيبرس ينصحه، قال: (ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء مادام في بيت المال شيء من نقد أو متاع، أو أرض، أو ضياع، أو غير ذلك، وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان ـ أعز الله أنصاره ـ متفقون على هذا، وبيت المال بحمد الله معمور، زاده الله عمارة وسعة وخيرًا وبركة)[تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النووي، ص(50-54)].

2- يُشترط أن يكون فرض الضريبة استثنائيًّا، دعت إليه المصلحة العامة للدولة، وتدبيرًا مؤقتًا حسبما تدعو إليه الضرورة، وأن يوظف الإمام على الناس بقدر الحاجة، على أن ينتهي هذا الأمر بزوال العلة الداعية وانتهاء الحاجة؛ لأن تصرف الحاكم في فرض الضريبة منوط بالمصلحة؛ والقاعدة الفقهية تقول: “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”.

4- أن يكون التصرف في جباية المال وإنفاقه على الوجه المشروع، أي يكون فرض الضريبة لإنفاق المال في مصالح الأمة، لا على المعاصي والشهوات والأهواء من قِبَل السلطة الحاكمة، ولا لتنفق على ترفيه أسرهم وترفههم، ولا لترضية السائرين في ركابهم، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ، فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ، فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا، وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلا نَارٌ، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلا أَنْ يَسْأَلُونِي، وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ)[رواه أحمد (10739)]، ورُوي أن رجلا كان بينه وبين عمر بن الخطاب قرابة، فسأله مالا؛ فزجره وأخرجه، فكُلِّم فيه، فقيل: يا أمير المؤمنين، فلان سألك، فزجرته وأخرجته، فقال: (إنه سألني من مال الله ـ ويعني من مال جماعة المسلمين ـ فما معذرتي عند الله إن لقيته ملكًا خائنًا؟)، فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله [تاريخ الطبري، (19/5)].

ولهذا، ففرضها يكون لإشباع الحاجة إلى الخدمات الصحية؛ من علاج، ومستشفيات، ومصانع أدوية، ونحوه، وإشباع الحاجات التعليمية من مدارس ومعلمين ونحوه.

5- أن تُؤخذ من فضل المال، أو ما يزيد عن حاجة المكلفين الأساسية، فمن كان عنده من المكلفين فضل عن إشباع حاجاته الأساسية، أُخذت الضريبة من هذا الفضل، ومن كان لا فضل عنده بعد هذا الإشباع للحاجات الأساسية؛ فلا يؤخذ منه شيء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ)[مسند أبي يعلى الموصلي: 1050].

        والخلاصة أن الأصل في الضرائب المنع إلا بشروط ذكرت آنفاً، فيجب على القائمين على البرلمان والدستور مراعاة الضوابط والقيود التي ذكرها الفقهاء في هذا،      

         ولو سنَّت الدولة قانوناً يفيد أن من أدى زكاة ماله إلى صندوق الزكاة تخصم ما أداه من الزكاة من الضريبة، لكان هذا علاجاً جزئياً لمسألة الضرائب.

 ثالثاً: عقود التأمين :

          فالغالب في عقود التأمين الحالية، أنها من العقود المحرمة القائمة على الغرر، المشتملة على أكل أموال الناس بالباطل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، أنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر وعن بيع الحصاة)[صحيح مسلم:1513]، وذلك لأنه تدفع الأقساط إلى شركة التأمين سنين طويلة، وقد لا يحصل المكروه، فلا يتحصل المؤمن عليه على شيء، وتضيع كل الأقساط، وقد يحصل المكروه بعد الاشتراك بالقسط الأول، فيأخذ المتضرر من الشركة أموالا طائلة، وهذا هو القمار بعينه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

 ولاجتناب هذه المعاملة المحرمة، يجب اعتماد شركات التأمين التكافلي، التي بها هيئة رقابةٍ شرعية، ويُلغى ما عداها، والله أعلم .

 وفقكم الله لخدمة دينه وعباده ..

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

                                                                             مفتي عام ليبيا

25/ربيع الأول/1434هـ

2013/1/6

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق