بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (2665)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
لوحظ في الفترة الأخيرة؛ تقاعس عدد كبير من المصلين عن الحضور للمسجد، قبلَ إقامة الصلاة، وترتّب على ذلك إقامة جماعة ثانية – وربما ثالثة ورابعة – في نفس المسجد، فهل يجوز إقامة جماعة غير الجماعة الأولى في مساجد المدن العامرة؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب مكروهةٌ؛ لِئَلّا يتأذّى الإمام بذلك، ويحصل الشقاقُ بين المؤمنين، وهو مخالفٌ لمقصودِ الجماعة، ويؤدِّي إلى التساهلِ في حضورِ الجماعةِ الأولَى، وقد يكونُ سبيلًا لأهلِ البدعِ للتخلفِ عن الإمامِ، والصلاةِ جماعةً بعدَه؛ قال ابن أبي زيدٍ القيرواني رحمه الله: “ويكرَه في كلّ مسجدٍ له إمام راتب أن تجمع فيه الصلاة مرتين” [الرسالة:ص36]، وقال العدوي رحمه الله: “وعلى الكراهة؛ لأذيةِ الإمام، أو لتطرق أهل البدع، أو للتهاونِ بالصلاة، أو لتفريقِ الجماعة” [حاشية العدوي على الكفاية:380/1]، والكراهة قائمةٌ، وإن أَذِنَ الإمام الراتب؛ قال خليل رحمه الله في المكروهات: “وإعادةُ جماعة بعد الراتبِ وإن أَذِن” [المختصر:ص41].
ويترتبُ على ذلك من الفوائدِ؛ تكثيرُ الجماعةِ الأولى، ونيلُ الفضيلةِ؛ ففي الحديث: (صَلاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَان أَكْثَرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) [أبوداود:554، النسائي:843]، قال خليل رحمه الله: “اعلم أنّ للشرعِ غَرضًا في تكثيرِ الجماعة، لعلّ أن يصليَ الشخصُ مع مغفورٍ له فيغفَر له، على ما جاءَ في الحديثِ، ولذلك أَمَرَ بالجماعة وحَضَّ عليها، ولذلك قُلنا: لا تجمع الصلاة في مسجدٍ واحدٍ مرتينِ؛ لأن الناسَ إذا علِموا بذلكَ تَأهّبُوا أولَ مرةٍ، خوفًا مِن فَوتِ فضيلةِ الجماعة” [التوضيح:30/2].
وإذا دخلَ جماعة المسجدَ، ووجدُوا الإمامَ قد صلَّى، فإنْ طمعُوا في إدراكِ جماعةٍ في مسجدٍ آخر، خرجُوا إليه، أو خرجوا وصلُّوا جماعةً في مكانٍ آخرَ غير المسجدِ، وإلّا صلّوا في المسجدِ فرادَى؛ قال الإمام مالك رحمه الله: “إذا أتى الرجلُ المسجدَ، وقد صلّى أهلُه، فطمعَ أن يدركَ جماعةً مِن الناسِ في مسجدٍ آخر أو غيره؛ فلا بأسَ أن يخرجَ إلى تلك الجماعةِ، وإذا أتَى قومٌ وقدْ صلّى أهلُ المسجدِ، فلا بأسَ أن يخرجُوا مِن المسجدِ فيَجمَعوا وهم جماعة، إلا أنْ يكونَ المسجِد الحرام أو مسجِد الرسولِ فلا يخرجُون، وليُصلُّوا وِحدانًا؛ لأن المسجدَ الحرامَ أو مسجدَ الرسولِ أعظمُ أجرًا لهم مِن صلاتِهم في الجماعة” [المدونة:181/1].
واستثنى بعضُ أهلِ العلم المساجدَ المطروقةَ في الأسواقِ، وعلى الطرقاتِ، التي يغْشاها المسافرونَ، وليستْ لها جماعةٌ معهودةٌ، فلا تُكرَه إعادةُ الجماعةِ فيها، وذلكَ للسلامةِ مِن المحاذيرِ السابقةِ، فلا يُخافُ في مثلِها مِن تعطيلِ الجماعةِ على النحوِ السابقِ، أو الطعنِ في الأئمةِ، وتُلحق بها المساجدُ التي ليسَ لها أئمةٌ ولا مؤذنونَ راتِبون، واعتادَ الناسُ أن يصلُّوا فيها أفواجًا مُتعاقبِينَ [انظر: المبسوط للسرخسي:135/1، وبدائع الصنائع للكاساني:153/1]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
محمد علي عبد القادر
غيث بن محمود الفاخري
نائب مفتي عام ليبيا
28/المحرم/1437هـ
2015/11/10م