بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (4317)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
شريكٌ بشركة خدمات طبية، ولها مستشفى تابع لها، بحصة قيمتها مليون ونصف مليون دينار، وتمثل ثلث أسهم الشركة، حصل خلاف بينه وبين الشركاء الآخرين، فوكل محاميًا ليتولى شؤون التقاضي ومتابعة الخصومة، بأجرة قدرها عشرون ألف دينار، واتفقوا أنه إذا بيعت هذه الحصة -وحسب تقدير الشريك فإنها تباع بثلاثة ملايين دينار على الأقل- فللمحامي نسبة 6%؛ لأنه كان سببًا لوصول الشريك لحقه وبيعه، ونص الاتفاق بينهما على أنه: (يستحق الطرف الثاني [المحامي] النسبة المذكورة في حال عدول الطرف الأول [الشريك] عن بيع حصته على أن تحسب نسبة (6%) من القيمة المقدرة من قبل الطرف الأول)، والذي حصل أن المحامي المذكور رفع ثلاث قضايا في المحكمة رُفضت كلها، فاستأنف في اثنتين منها وطال الأمر، ولم يخبر الشريك بشيء، وإلى الآن لم يبت القضاء فيها بشيء، ثم إن الشريك المذكور تواصل مع دار الإفتاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي (الماسنجر)، وعبّر عن استيائه وخيبته ممّا آل إليه أمر المشفى من أخطاء طبية، وكثرة شكاوى الناس من سوء المعاملة فيه، وأنه غير مطمئن البال للربح الناشئ عن عمل المشفى، فأجيب بأن يترك الريب ويخرج برأس ماله فقط؛ دفعًا للشبهة -حسب قوله- وبالفعل قام شخص يعرفه الشريك غير المحامي المذكور فتولى تسوية الأمر مع باقي الشركاء، مقابل حصول الشريك على رأس ماله فقط، وهو مليون وأربعمائة ألف دينار، وترك مائة ألف دينار احتياطًا منه، والسؤال: هل يستحق المحامي المذكور نسبة (6%) المذكورة في الاتفاق بعد ما حصل حسب ما بيَّنَ، أم لا؟ علما بأن المحامي لا علم له بالتسوية الأخيرة التي وقعت بعد الفتوى المذكورة.
الجواب:
الحمدُ لله، والصّلاةُ والسّلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فإن كان الحال كما ذكر، فإنّ هذا العقدَ مشتمل على إجارة وجعالة في عقد واحدٍ، ما يخص أجرة العشرين ألفًا مقابلَ التقاضي هذا إجارة، وما يخص التسوية التي تمكن الشريكَ من بيع حصتهِ، أو الاستمرار في الشركة، مقابل 6% من قيمة حصةِ الشريك، هذا جعالة، والأجرة يستحقها الأجير بقيامه بالعمل المقابلِ لها، وأما الجعالة فلا يستحق فيها المجاعَل الجعل كاملا إلا بإتمام العمل، وقد قام المحامي بالعمل المتعلق بالإجارة، فاستحقّ الأجرة عليه (العشرين ألفا)، وأمّا ما يخص الشقّ المتعلق بالجعالة، فالجعل فيه وهو الستة بالمائة متوقف على إتمام العملِ، وهو تسوية القضية بما يمكّن الشريك من البيع أو الاستمرار في الشركة، وهذا لم يحصلْ من المحامي، فلا حقّ للمحامي في الجعل المتفق عليه، لقول الله تعالى: ﴿وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 72]. وبخاصة فيما إذا أعطي المدة الكافية لمثله في إنجاز العمل ولم يتمكنْ.
وتصرف الشريك بمنع المجاعَل من إتمام العمل المجاعَل عليه، لا يؤثر في حالة ما إذا كان المجاعِل أعطى للمجاعَل المدة الكافية لإتمام العمل بحسبِ العرفِ ولم يتمكن؛ لأنه لا يمكن أن يجعل عقد الجعالةِ ممتدًّا إلى ما لا نهاية؛ إذ الطول الزائدُ على المعتاد يترتبُ عليه ضررٌ للمجاعِل، وإذا ترك المجاعَل قبل الإتمام واستفاد المجاعِل من عمله، فإنه يعطى له من الجعل بالقدر الذي حصلت منه الاستفادة.
وعليه؛ فيسأل كل من الطرفين ما إذا تمت للمجاعِل استفادة من عقد الجعالة، فإن توافقا على الاستفادة أعطي المجاعَل بقدرها بحسب العرف، وإن توافقا على عدم الاستفادة فلا شيء للمجاعَل، وإن التبس الأمر واختلفا فعليهما أن يتصالحا إبراء للذمّة، وأما اجتماع الإجارة مع الجعالة في عقد واحد فلا بأس به لجريانِ العمل بذلك، وحاجة الناس في معاملاتهم إلى ذلك، قال عليش رحمه الله: “.. ابْنُ عَرَفَةَ: اُخْتُلِفَ فِي الْبَيْعِ وَالْجُعْلِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ. ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَجْتَمِعُ الْجُعْلُ وَالْإِجَارَةُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مَعْلُومًا فِي مَعْلُومٍ، وَالْجُعْلُ يَجُوزُ فِي الْمَجْهُولِ فَهُمَا مُخْتَلِفا الْأَحْكَامِ مَتَى جُمِعَا فَسَدَا، وَعَنْ سَحْنُونٍ إجَازَةُ الْمُغَارَسَةِ مَعَ الْبَيْعِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى” [منح الجليل: 7/442]، وقال التسولي رحمه الله: ”
وَجَمْعُ بَيْعٍ مَعَ شَرْكةٍ وَمَعْ *** صَرْفٍ وَجُعْل وَنِكاحٍ امْتَنعْ
وَمَعْ مُسَاقَاةٍ وَمَعْ قِرَاضِ *** وَأَشْهَبُ الجَوازُ عَنْهُ مَاضِ
أَي: لَا يجوز اجْتِمَاع البيع مَعَ وَاحِد من هَذِه الْعُقُود السِّتَّة خلافًا لأَشْهَب؛ لتنافي أَحْكَامِهَا .. وَوَجْهُ قَوْلِ أَشْهَبَ بِجَوَازِ اجْتِمَاعِ هَذِه الْعُقُودِ، أَنَّهُ لمَاَّ جَازَ كُلُّ عَقْدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ جَازَ مُجْتَمِعًا” [البهجة شرح التحفة: 2/14]، والإجارة بيع للمنافع فحكمها حكم البيع، فمن أجاز اجتماع هذه العقود مع البيع فالإجارة كذلك، قال ميارة رحمه الله: “وَيَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ هُنَا الْإِجَارَةُ وَالْكِرَاءُ؛ لِأَنَّهُمَا بَيْعُ مَنَافِعَ، فَكَمَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْبَيْعِ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ السِّتِّ، كَذَلِكَ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْإِجَارَةِ وَالْكِرَاءِ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهَا” [الإتقان والإحكام: 1/ 283]، والله أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الدائم بن سليم الشوماني
عبد العالي امحمد الجمل
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
28//ربيع الآخر//1442هـ
13//12//2020م