بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (3920)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
هناك أراضٍ زراعية مصنفة وقفًا لله عز وجل، ومستغلة منذ وقت طويل من بعض الأسر الليبية ضعيفةِ الحال، مكَّنهم أهلُ الخير آنذاك من تلك الأراضي، للعيش فيها والارتزاق منها، وبمرور السنين أصبح أبناء تلك الأسر يُقبِلون في المدة الأخيرة على تشييد المباني السكنية لعائلاتهم، ولأبناء أبنائهم، بل ومنهم من يستغلها للكسب بالإيجار التجاري، دون إذنٍ من أحدٍ، أو أي ترتيب يضعُ حدًّا لذلك الاستغلال، ممّا يهدد باندثار الوقف في القريب العاجل، لذا نرجو إخطارنا بالحكم الشرعي لمثل هذه الأعمال، وما الذي يتوجب لمتابعة تطورات هذا الأمر قُبالة الجهات المعنية؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن أحباس المسلمين يجب الحفاظ عليها، ولا يجوزُ لمن يستعملها التصرف فيها بتبديلٍ أو تغييرٍ، أو زيادةٍ أو نقصانٍ، إلّا بإذنِ ناظرِ الوقف الحريص، بما يراه يحققُ مصلحةَ الحبس، قال تعالى: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ﴾ [البقرة:181].
لذا ذكر الفقهاء أنه لا يجوز تأجير أراض الوقف لآجالٍ طويلة؛ لأنه يؤدي إلى تغييرها، قال الدردير رحمه الله: “(وَأَكْرَى نَاظِرُهُ إنْ كَانَ) الْوَقْفُ (عَلَى مُعَيَّنٍ) كَفُلَانٍ وَأَوْلَادِهِ (كَالسَّنَتَيْنِ) وَالثَّلَاثِ لَا أَكْثَرَ، وَقِيلَ الْكَافُ اسْتِقْصَائِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ عَلَى فُقَرَاءَ وَنَحْوِهِمْ جَازَ كِرَاءُ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ لَا أَكْثَرَ إنْ كَانَ أَرْضًا، وَالْعَامِ لَا أَكْثَرَ إنْ كَانَ دَارًا وَنَحْوَهَا، فَإِنْ أَكْرَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مَضَى إنْ كَانَ نَظَرًا ولَا يُفْسَخُ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ تَقْتَضِي الْكِرَاءَ لِأَكْثَرَ مِمَّا تَقَدَّمَ، كَمَا لَوْ انْهَدَمَ الْوَقْفُ فَيَجُوزُ كِرَاؤُهُ بِمَا يُبْنَى بِهِ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ كَأَرْبَعِينَ عَامًا أَوْ أَزْيَدَ بِقَدْرِ مَا تَقْتَضِي الضَّرُورَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ ضَيَاعِهِ وَانْدِرَاسِهِ” [الشرح الكبير: 96/4].
وعليه؛ فلا يجوز للمستغلين تغييرُ عقار الوقفِ، ولا البناءُ عليه دونَ إذنٍ مِن الناظرِ العدل إن وُجد، أو هيئة الأوقاف المتقيدة في إذنها بأحكام الشريعة، إن كان الوقف تابعًا لها، وتغييرُ المستغلين للعقار حسب هواهم – مراعين مصلحتَهم الخاصة، ومصلحةَ أسرهم، بفرضِ الأمر الواقع – دون إذنٍ، هوَ مِن العدوانِ على أملاكِ الوقفِ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم محذرًا من التعدي على أملاك الغير وعقاراتهم: (مَن أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ، طُوِّقَهُ في سَبْعِ أرضينَ يومَ القيامةِ) [البخاري:2453]، والتعدي على مال الوقف وعقاراته أعظم ظلما وأشدّ حرمةً.
ومن واجب ناظر الوقف المحافظة على أملاك الوقفِ، وأن لا يسمح للمستغلين بالتلاعبِ بها، فإنّ اللهَ استرعاهُم على صدقاتِ المسلمين، فإنْ حفظُوها وحافظُوا عليها كانَ في مرضاةِ الله، وإنْ ضيّعوها فإنّ الله تعالَى سائلُهُم عمّا استرعاهُم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألَا فكُلّكم راعٍ، وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيتِهِ) [البخاري:2416]، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد ميلاد قدور
حسن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
01/ذوالقعدة/1440هـ
04/07/2019م