التحبيس على النفس وعلى الذكور دون الإناث
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (3231)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
حبَّس الحاج (م) كامل دكانه، الكائن بطريق محلة البلدية، المبينة حدوده في الوثيقة، وقرر وأشهد على نفسه بأنه وقف وحبس، وأَبَّد كامل الدكان على نفسه مدة حياته، مقلدًا في ذلك مذهب أبي حنيفة، وآخذًا بقول صاحبه الإمام أبي يوسف، ثم بعد وفاة المحبس يكون وقفًا على ابنه المدعو (ع) لا غير، مدةَ حياته، ثم على ذريته الذكور فقط، وعلى ذرية ذريته كذلك الذكور فقط، إلى آخر العقب، فإن انقرضت رجع وقفا على جامع الحاج سالم الساحلي، الكائن بقرية قرقارش، وأشهد عليها الشهود، وكتبه في: 1370/10/18 هـ، الموافق: 1953/06/02م.
فما حكم هذا الحبس؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالجواب على ما جاء في الوثيقة يكون على ثلاثة أقسام:
أولًا: التحبيس على النفس باطل عند جماهير أهل العلم؛ لأنه مما لا نفع فيه، ولا قربى ترتجى من ورائه، وليس فيه سوى التحجير على النفس، قال الخرشي في شرحه على المختصر: “ومعناه: أَنَّ الْحُبْسَ عَلَى النَّفْسِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْوَقْفُ كُلُّهُ بَاطِلًا إذَا وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ يُحَزْ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَمَّا إنْ حِيزَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ مَا يَخُصُّ الْوَاقِفَ فَقَطْ، وَيَصِحُّ مَا يَخُصُّ الشَّرِيكَ، وَيَكْفِي حَوْزُ حِصَّةِ الشَّرِيكِ فِي صِحَّةِ وَقْفِهَا حَيْثُ تَعَيَّنَتْ، كَأَنْ يَقِفَ دَارَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى شَخْصٍ، عَلَى أَنَّ لَهُ إحْدَاهُمَا مُعَيَّنَةٌ وَالْآخَرِ الْأُخْرَى” [84/7].
ولكن لما نصَّ الواقف على تقليده لبعض المذاهب المعتبرة لم يصح نقضه، ويمضي على ما فيه.
ثانيًا: الحبس على الذكور دون الإناث، هو محل اختلاف بين أهل العلم، والصواب الذي ترجحه الأدلة الشرعية أنه غير جائز شرعًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللهَ واعدِلوا بين أولادِكم) [البخاري:2587]، وفي المدونة: روى ابن وهب عن محمد بن حزم، أنه حدَّثَ عن عمرةَ بنتِ عبد الرحمن، أنها ذكرت أنّ عائشة رضي الله عنها إذا ذكرت صدقات الناس اليوم، وإخراج الرجال بناتهم منها، تقول: ما وجدت للناس مثلا اليوم في صدقاتهم، إلّا كما قالَ الله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَّكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ) [المدونة: 423/4]، وقال الإمام مالك في رواية عنه: “إنّه مِن عملِ الجاهلية” [شرح الخرشي: 88/5]، وهو اختيار الشيخ خليل في المختصر، قال: “وحرم – أي الوقف – على بنيه دون بناتِه”، وهو المعتمد في أكثر المذاهب، وهذا الحبس على الذكور دون الإناث تم إلغاؤه، بصدور فتوى من مفتي الديار الليبية السابق، الشيخ الطاهر الزاوي رحمه الله سنة 1973م، وبعد هذه الفتوى صدر القانون رقم 16 لسنة 1973م بإلغائه.
عليه؛ فإن الحبس على الذكور دون الإناث أو العكس يكون باطلًا، من تاريخ صدور القانون بإلغائه، لا ما كان منه قبل صدور القانون بالإلغاءِ، فإنْ حَكمَ حاكمٌ بصحتهِ مَضى؛ لأنّ حكمَ الحاكم يرفعُ الخلاف، وما لم يحكم بصحتهِ حاكمٌ يكونُ باطلًا، ويقسمُ على الورثة الموجودين وقت صدور قانون الإلغاء حسبَ الفريضةِ الشرعية.
ثالثًا: الوقف على المسجد المذكور لم يسلمه الواقف للمسجد، ولم يُحز عنه حتى مات، فهو وصية من الوصايا، تُخرجُ من ثلث المال، فيجعل الدكان المذكور حبسًا للمسجد المذكور، إن كان يساوي ثلث مال الميت فأقل، فإن زاد على ثلث التركة؛ فالأمر في القدر الزائد منه على ثلث التركة إلى الورثة، إن شاءوا أمضوه، وإن شاءوا ردُّوه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقد أراد أن يتصدق بماله: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) [مسلم: 1628]، وما زاد عن الثلث قُسِّم على الورثة بقدر أنصبائهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
13/جمادى الآخرة/1438 هـ
12/مارس/2017م