الحكم الشّرعي في الغناء والموسيقى والنّحت والرّسم والرّقص والتّمثيل
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5714)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
ما الحكم الشّرعي في الغناء والموسيقى، والنّحت والرّسم، والرّقص والتّمثيل؟
الجواب:
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أمّا بعد:
فالغناء إن كان بغير آلة موسيقيّة، وخلا من اللفظ القبيح شرعًا؛ كذكر ما يهيج الشهوات، أو يوقع الفتن بين القبائل، أو يمدح أهل الشر والفساد، ونحو ذلك، فهو جائزٌ، مثل ما اعتاد الناس عليه من رفع الصوت عند بذلِ جهد، كحفر أرضٍ، ترويحًا على النفس، وتنشيطًا للعمل، ومثل حِداء الأعراب بالإبل عند الأسفار وقطع المفاوز، ويدخل فيه أهازيج الحُجاج والغزاة، وغناء المرأة لتسكيت صغيرها وتهدئته لينام، والأهازيج عند اللعب بالسلاح، للتدريب على الحرب والطعان، كما كان من لعب الحبشة بالحِراب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك.
وأمّا الغناء المصحوب بآلة عزف أو موسيقى فلا يجوز، والمعازف بمفردها محرّمة، فما ظنّك إذا انضمّ إليها الغناء؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ) [البخاري معلّقا بصيغة الجزم: 5590]، ورخص الشّارع من ذلك الدفّ للصغار في العيد، وحالات السرور كالختان والعرس، للنساء دون الرجال، قال ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، عند الكلام على الضّرب بالدّفّ في العرسِ ونحوِهِ: “وَالْأَحَادِيثُ الْقَوِيَّةُ فِيهَا الْإِذْنُ فِي ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِنَّ الرِّجَالُ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنِ التَّشَبُّه بِهن” [فتح الباري: 9/226].
وبذلك يُعلم أنّ الغناء؛ منه ما هو مباح، ومنه ما هو ممنوع، والحكم عليه فرع تحديد المراد منه.
وأما النحت؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تصوير الأشياء على صورة ذوات الأرواح من الحيوانات، إن كان لها ظل، بحيث يعيش مثلها، وحذر منه تحذيرًا شديدًا، فعن سعيد بن أبي الحسن قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، إذ أتاه رجل فقال: يا ابن عباس، إني إنسان إنما معيشتي من صنعة يدي، وإني أصنع هذه التصاوير، فقال ابن عباس: لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: (مَن صَوّر صُورَةً، فَإِنَّ اللهَ مُعَذّبُهُ حَتَّى يَنفخَ فِيهَا الرّوح، وَلَيسَ بِنَافخٍ فِيهَا أَبَداً، فَربَا الرّجل رَبوَةً شَدِيدَةً، وَاصفَرّ وَجهُهُ، فَقَالَ: وَيحَكَ، إن أَبَيتَ إِلاّ أَن تَصنَعَ، فَعَلَيكَ بِهَذَا الشّجَرِ، كُلّ شَيءٍ لَيسَ فِيهِ رُوحٌ) [البخاري: 2112، ومسلم: 2110].
ويكره الرسم والنقش لذوات الأرواح من الحيوانات على الأشياء كالورق والثياب والحيطان، إذا لم يكن لها ظلّ، قَالَ الْأَمِيرُ رحمه الله: “(وَحَرُمَ تَصْوِيرُ ذِي ظِلٍّ تَامِّ الْأَعْضَاءِ) بِحَيْثُ يَعِيشُ مِثْلُهُ (وَالْأَوْلَى تَرْكُ غَيْرِهِ) مِنْ نَقْشٍ لاَ ظِلَّ لَهُ وَنَاقِصٍ وَلاَ يَحْرُمَانِ”، قَالَ الشّيخُ حِجَازِيْ: “(قَولُهُ: ذِى ظِلّ) مِنَ الحَيَوَانَاتِ دُونَ الْأَشجَارِ” [ضوء الشموع شرح المجموع: 1/115].
وأمّا الرّقص؛ فقد يكون لا حرج فيه أنّه من اللّهو المباح، إذا كان على هيئة حركات مستقيمة، ولم يكن بتكسّر وتثنّ، ولم يصدر عن أهل المروءة والاقتداء، وكان الحامل عليه مباحًا شرعًا، ولم يصحبه اختلاطٌ أو حركاتُ تخنّثٍ ولا تشبه بالنساء، وذلك لما روته عائشة i في الصّحيح، من رقصِ الحبشةِ في المسجد يوم العيد، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاها، فوضعتْ رأسَها على منكبه، قالت: “فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ حَتَّى كُنتُ أَنَا الَّتِي أَنْصَرِفُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهِمْ” [مسلم: 892]، ونقل الوزاني رحمه الله في المعيار الجديد مَا اشترطه العلماء في الرقص، بقوله: “قَالَ إِمَامُ الحَرَمَينِ: الرَّقْصُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ حَرَكَاتٌ عَلَى اسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ، وَلَكِنّ كَثِيرَه يُخِلّ بِالْمُرُوءَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ وَالشَّهْرَزُورِي وَالرَّافِعِيْ، وَقَال الحَلِيمِي فِي مِنهَاجِهِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَثَنّ وَتَكَسّرٌ فَلَا بَأْسَ، وَقَالَ الْإِمَامُ النّوَوِي فِي الْمِنْهَاجِ: وَيُبَاحُ رَقْصٌ، مَا لَمْ يَكُنْ تَثَنّ وَتَكَسّرٌ كَهَيْئَةِ تَخَنّثٍ، وَالْأَمْرُ فِيهِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ… وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ: فَحُكْمُهُ حُكْمُ مُهَيّجِهِ، إِن كَانَ فَرَحُهُ مَحْمُوداً وَالرّقْصُ يَزِيدُهُ وَيُؤَكّدُهُ فَهْوَ مَحْمُودٌ، وَإِن كَانَ مُبَاحاً فَهْوَ مُبَاحٌ، وَإِن كَانَ مَذْمُوماً فَهْوَ مَذْمُومٌ. نَعَمْ لاَ يَلِيقُ اعْتِيَادُ ذَلِكَ بِمَنَاصِبِ الْأَكَابِرِ وَأَهْلِ الْقُدْوَةِ؛ لِأَنّهُ فِي الْأَكْثَرِ يَكُونُ عَنْ لَهْوٍ وَلَعِبٍ، وَمَا لَهُ صُورَةُ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ يَنْبَغِي أَن يَجْتَنِبَهُ الْمُقْتَدَى بِهِ؛ لِئَلَّا يَصْغُرَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ فَيُتْرَكَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ” [النوازل الكبرى: 3/476-477].
وأما التمثيل؛ فالأصل فيه الجواز، بشرطِ ألَّا يقترن بمحرم، والمتبادرُ إلى الذهنِ اليوم عند ذكر التمثيلِ، هو التمثيلُ المقترن بالاختلاط والغناء، وغالبًا ما تكون غايات العمل التمثيلي مدمرةً للأسرةِ والفضيلةِ، وملهيةً للأجيالِ عن ما يتوجّب عليهم، وفيه كذلك مِن السعي لإثارةِ الناس وإضحاكهم، ولو بالكذبِ والتحريف، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ بِالحَدِيثِ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ فَيَكْذِبُ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ) [التّرمذي: 2315، وقال: حَديثٌ حَسنٌ]، فإن خلا العمل التّمثيلي من ذلك، وكان وسيلة للخير، والتزم فيه بالرّقابة الشّرعيّة؛ فلا مانعَ منه، واللهُ أعلمُ.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد بن ميلاد قدور
حسن بن سالم الشّريف
الصّادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
22//محرّم//1446هـ
28//07//2024م