الحكومة في الجراح في مال الجاني، يُقدِّرها أهل الخبرة والاختصاص
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5351)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
تعرَّضتُ للإصابة عمدًا بآلة حادَّة، عند قيامي بالتدخل لإنهاء مشاجرة بين شخصين (أحدهما أخي)، وترتَّب على هذه الإصابة قطعُ الأعصاب والأوتار والشرايين الموصلة إلى أصابع اليد، وأُجريت لي عملية جراحية على اليد، وأخبرني الطبيب أني لن أستطيع تحريك يدي إلا بعد خمسة أشهر، وعند حضور والد الجاني طلبنا منه دفعَ مبلغ مالي قدره ثمانية عشر ألف دينار، وذلك لتغطية ثمن العلاج داخل البلاد وخارجها، وللضرر الذي لَحِقَ بي جرَّاء هذه الإصابة، وهو توقفي عن العمل المدة المذكورة، فهل يجوز لي طلبُ وأخذُ هذا المبلغ مقابلَ التنازل عن القضية؟ علمًا أنَّ عليَّ التزامات مالية لا أستطيع سدادها بسبب توقفي عن العمل.
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنَّ الجراح منها ما فيه دِية مقدَّرةٌ، سواء كانت عمدًا أو خطأً، ومنها ما فيه حُكومةٌ، والجرح الذي تعرَّض له السائل مما ليس فيه دية مقدرة، وإنما الواجب فيه الحكومة في مال الجاني، يُقدِّرها أهل الخبرة والاختصاص، وذلك مقيَّدٌ بما إذا برئ العضو ولكن لم يَعُدْ كما كان، بأن لحقه ضعف أو شين، فإن عاد كما كان دون شينٍ فليس على الجاني المتعمد إلا الأدب، ودفع ما كلَّفته الجناية من التداوي والعلاج للمجني عليه، قال الدردير شارحًا كلام خليل رحمهما الله: “(وَفِي الْجِرَاحِ) أَيْ جِرَاحِ الْخَطَإِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا دِيَةٌ مُقَرَّرَةٌ، أَوْ الْعَمْدِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مُقَدَّرٌ كَعَظْمِ الصَّدْرِ وَكَسْرِ الْفَخْذِ (حُكُومَةٌ) أَيْ شَيْءٌ مَحْكُومٌ بِهِ أَيْ يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ الْعَارِفُ… ثُمَّ بُرْؤُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ عَوْدَهُ كَمَا كَانَ، لَكِنْ إنْ عَادَ كَمَا كَانَ فَإِنَّمَا عَلَى الْجَانِي الْأَدَبُ فِي الْعَمْدِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَإِ، فَالْحُكُومَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا إذَا بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ” [الشرح الكبير:4/269].
وقال الخرشي شارحًا كلام خليل رحمهما الله: وَالرَّاجِحُ… أَنَّ أُجْرَةَ الطَّبِيبِ عَلَى الْجَانِي” [شرح الخرشي: 6/150].
ولا يضمن الجاني ما يُتَوقَّع أن يترتَّب على الجناية، من تعطُّل المجنيِّ عليه عن العمل، قال الخرشي شارحًا كلام خليل رحمهما الله: “(وَمَنْفَعَةُ الْبُضْعِ وَالْحُرِّ بِالتَّفْوِيتِ) (ش)… وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ مَنْفَعَةَ الْحُرِّ بِالتَّفْوِيتِ أَيْ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ غَصَبَ حُرَّةً وَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا وَأَمَّا الْأَمَةُ فَعَلَيْهِ مَا نَقَصَهَا رَائِعَةً كَانَتْ أَوْ وَخْشًا فَلَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَنْفَعَةَ مِنْ الْبُضْعِ بَلْ حَبَسَ الْحُرَّةَ أَوْ الْأَمَةَ وَمَنَعَهَا مِنْ التَّزْوِيجِ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَاقِهَا وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ بَدَنِ الْحُرِّ لَا يَضْمَنُهَا الْغَاصِبُ إلَّا بِالتَّفْوِيتِ وَالْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ وَطْءُ الْبُضْعِ وَاسْتِعْمَالُ الْحُرِّ بِالِاسْتِخْدَامِ أَوْ الْعَمَلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَيْثُ عَطَّلَهُ مِنْ الْعَمَلِ” [شرح الخرشي: 6/143].
أمَّا الضرر الذي وقع على المجني عليه بمنعه من العمل الذي كان يتقاضى عليه مرتبا كل شهر، فإنه ضرر فعلي حيث إنه كان يتقاضى مالا بالفعل منع منه، وليس هو ما يقوله الفقهاء من أن الجاني لا يضمن منفعة الحرّ، فإنهم يتكلمون عن المنفعة المقدرة كأن يقول المجني عليه: لو لم تحصل لي هذه الجناية لعملت كل يوم بكذا وكذا، فهذا المال المقدر غير مضمون من الجاني؛ لأنه ليس ضررا فعليا وإنما هو مقدر وهذا ما قررته المجامع الفقهية، في مسألة التعويض عن الضرر، فقد جاء في النقطةِ الخامسةِ من قرارِ المجمع الفقهي الإسلاميّ رقم 109 (3/12) في دورته الثانية عشرة المنعقدِ بالرياض بتاريخ: 25 جمادى الآخرة 1421 ما نصُّه: “الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لحق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي”.
وأما المبلغ المذكور فتؤخذ منه التكلفة الفعلية للعلاج، ثم إن برئ الجرح على غير شين فليس على الجاني إلا الأدب وإن برئ الجرح بعيب وشين وتشويه للعضو، فتجب فيه حكومة يحكم بها القاضي وأهل الخبرة، وهي تعويض يناسب مقدار الضرر الذي وقع على العضو، يقرره أهل الخبرة بمعرفة القاضي، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
أحمد بن ميلاد قدور
حسن بن سالم الشريف
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
09//ربيع الآخر//1445هـ
24//10//2023م