طلب فتوى
الإجارةالبيعالفتاوىالمعاملاتقضايا معاصرة

العقود القائمة على استغلال حاجات الناس، والإضرارِ بهم، والإجحافِ بأعمالهم؛ مِن العقودِ المحرمة شرعًا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الفتوى (5772)

 

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

نحنُ مقيمون في دولة أجنبية، علمانية الدستور، وأهلُها مسلمونَ على المذهب الحنفي، وتوجدُ بهذه الدولة مدارسُ دوليةٌ خاصة، مرخَّصٌ لها بممارسة النشاط التعليميّ وفقَ شروطٍ معينة، ويلتحق بكلِّ مدرسة من هذه المدارس مَن يتلاءمُ معها مِن الجاليات العربيةِ المسلمَةِ وغيرِها، حسبَ لغةِ ومنهجِ كل مدرسة، ومن الشروط التي تُفرضُ على هذه المدارس تحديدُ الحد الأدنى لأجورِ العاملين والموظفين بها، مع الإذنِ بالزيادة عليه، لكنَّ أكثرَ مالكي هذه المدارس – وهم مسلمون عرب – يتفقون مع الموظفين في عقودٍ غير رسمية، على مرتباتٍ قليلةٍ جدًّا، أقلّ من الحد الأدنى المفروض، الذي لا يكاد يبلغُ هو نفسُه حدَّ الكفاف، ويستغل بذلك مالكُو المدارس حاجةَ الناس إلى العمل، ويوجبونَ على الموظفين العمل لوقتٍ يصعبُ معه الحصول على وظائفَ أخرى، يعولُ بها المرءُ نفسَه وأهله، ويتحايل ملاكُ هذه المدارسِ على الدولة، بتحويلِ قيمة الحدّ الأدنى للمرتب، إلى الموظفِ أو المعلم، ثم يطلبونَ منه إرجاعَ الزائد، لأن الدولة تفرضُ عليهم غرامات وعقوبات إن لم يلتزموا بالعقد الذي تحصَّلوا به على تصريحِ العمل، علمًا أن أصحابَ هذه المدارس يتفقون فيما بينهم على تحديدِ الأجورِ غير الرسمية للعاملينَ لديهم، للحفاظِ على المرتبات في السوق، وإجبار العاملين على القَبول، وهم بذلك تزيدُ مكاسبُهم بشكل كبير، فما هو الحكم الشرعيّ في ما يقوم به أصحابُ هذه المدارس، من استغلال حاجة الناس، وإنقاص المرتبات عن الحد الأدنى الذي تفرضه الدولة، والتحايل عليها، كما سبق ذكره؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فإنّ الأصلَ في حِلِّيَّةِ العقود أن تكون عن تراضٍ، لا عن إكراه واستغلال لحاجة الضعفاء، لقوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ ‌إِلَّآ ‌أَن ‌تَكُونَ ‌تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ) [النساء: 30]، وما يفعله أصحاب هذه المدارس مع العاملين ليس فيه شيء من التراضي على الحقيقة، وإن كانت صورته في الظاهر قائمة على العقود.

فلا يجوز استغلالُ حاجاتِ الناس، وغَبْنُهُمْ في حقوقهم، والإضرارُ بهم، بعقود ظاهرُها الرضا، وباطنُها القهرُ واستغلال حاجة المضطر، فما يعطيه مُلَّاكُ هذه المدارس عوضٌ بخسٌ لا يرضَى به النّاسُ في الغالب، ولولا سيفُ الحاجة والضرورة ما قبل العاملون في هذه المدارس بالعمل على هذه الصورة.

وما يفعله أصحاب المدارس هؤلاء هو وجه من وجوه الاحتكار المحرّم شرعًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ) [مسلم: 1605]، فكما أنّ التربصَ بالسلعة ورفْعَ سعرِها حين تشتدّ حاجة الناس إليها مِن الاحتكار؛ فكذلك استئجارُ الناس على أعمالٍ مقابلَ أجور مجحفةٍ، للعلم بأنّهم مضطرونَ للقبول بهذه الأعمال، ومُكرهون عليها بسببِ الحاجةِ الشديدة، وعدم توفر أعمالٍ بديلة؛ هو نوعٌ من الاحتكار أيضا، وهو مِن أكل أموال الناس بالباطل، عن غير طيبِ نفسٍ من أصحابها، لأن لهذه الأعمال والجهود المبذولة فيها، والوقتِ الْمُقْتَطَعِ لها؛ قيمةً ماليةً معروفةً في سوق العمل، والإجحافُ بهذه القيمة المالية دونَ رضا أصحابها؛ أكلٌ لها بالحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ) [شعب الإيمان: 4/387].

وعليه؛ فإن كان الحال كما ذكر؛ فإن العقودَ غير الرسمية المذكورةَ في السؤال، القائمةَ على استغلال حاجات الناس، والإضرارِ بهم، والإجحافِ بأعمالهم؛ مِن العقودِ المحرمة شرعًا التي لا يجوز الإقدام عليها، ومن أكل أموال الناس بالباطل، وفيها مخالفة للشروط التي التزمها مُلَّاكُ هذه المدارس مع الجهة المسؤولة عن تصريح العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ) [أبو داود: 3594]، والواجبُ على أصحاب هذه المدارس تصحيح هذه العقود، وإرضاء الموظفين والعاملين، بإعطائهم أجور أمثالهم، بما يكافئ أعمالهم ويكون مُجْزِيًا لها، وينبغي للتجار المسلمين عمومًا؛ مراعاةُ أحوال إخوانهم المسلمين – وخاصةً مَن ألجأتهم الحروبُ وظروفُ الحياة ببلدانهم إلى الاغتراب – وإعانتُهم على شؤون دينهم ودنياهم، وقضاءُ حوائجهم، واحتسابُ الأجر على ذلك، لا أن يستغلوا ضعفهم وحاجتهم هذا الاستغلال القبيح، بالتحايل والتزوير في العقود والأوراق الرسمية، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ كَانَ ‌فِي ‌حَاجَةِ ‌أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا ستره الله يوم القيامة) [البخاري: 2310]، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

 

لجنة الفتوى بدار الإفتاء:

أحمد بن ميلاد قدور

عبد العالي بن امحمد الجمل

 

الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

مفتي عام ليبيا

14//ربيع الأول//1446هـ

17//09//2024م 

 

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق