العمولات والرشاوى المحرمة في المؤسسات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (3567)
ورد إلى دار الإفتاء السؤال التالي:
توجدُ لجنةٌ تابعةٌ لوزارةِ الاقتصادِ، تُعنَى بتقويمِ واعتمادِ الشركاتِ المرشّحةِ لاستجلابِ بعضِ السلعِ، بتوريدِها عن طريق الاعتمادات المصرفية (الحوالات)، وبعض الأشخاص لديهم علاقة باللجنة المذكورة آنفًا، ويقومون باعتماد هذه الشركاتِ منها، ومِن ثَمّ تحالُ للمصرف المركزي لإعطاء أصحابها الاعتمادات، ويَشترطُ هؤلاءِ الأشخاصُ – على من يُخرجون لهم الاعتمادات أو الموافقة عليها – نسبةَ 15% إلى 20% من قيمة الاعتماد، وحجتهم في ذلك أنهم يقدّمون عملا يأخذون مقابله أجرةً، ويقيسون ذلك على المكاتب العقاريةِ ومكاتب الخدمات، فما حكمُ الشرع في أخذهم لهذه الأجرة؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإنّ ما شاعَ العمل به الآن، مِن دفعِ العمولات للوسطاء، الذين يتولون إتمام أوراق الاعتمادات من الجهات المعنيةِ على اختلافِها؛ هو مِن أكلِ أموال الناس بالباطل، ومِن الظلم والتعدي، وعملهم أشبه ما يكون بمنظومةٍ متعاونةٍ على الإثم والعدوانِ، تقوم على تتميم أوراقِ مَن يدفعُ، وتعطيلِ مَن لا يَدفع، فكلّ درهم يأكلُه هؤلاءِ على هذا العمل المشينِ، هو مِن قبيلِ السّحتِ والرّشوة المحرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعَنَ اللهُ الرّاشِي والمرْتَشِي) [الترمذي:1336]، وكلُّ مَن له لهم علاقة بفتح الاعتماداتِ، يعرفونَ هذه الأعمالَ، ويشْكُونَ منها مُرَّ الشكوَى، والمسؤولون في المصارفِ – بما فيهم مصرف ليبيا المركزي، الذي يصدر الموافقات على تحويل العملة الأجنبية – يرونَ هذا الفسادَ، في الوقت الذي يشكُونَ فيه من العجزِ الشديدِ في العملاتِ الأجنبية، الذي يهددُ اقتصاد البلد بالانهيار، ويلوّحونَ بالاقتراضِ بفوائدَ ربويةٍ عاليةٍ مِن بنوكٍ أجنبيةٍ، يرونَ هذا الفسادَ ونهبَ الأموال ولا يحرّكون ساكنًا، حتّى صارَ الأمر يستَفحِلُ ويزدادُ سوءًا مع الأيامِ، وزادَ مع ارتفاع سعرِ الدولار الطمعُ والاحتيالُ، والتكالبُ على هذا السحتِ، بل تطور طمعهم إلى فتح اعتماداتٍ غير حقيقيةٍ، لسلعٍ لا تُورد، مجرد إجراءاتٍ على الورق؛ لتحويلِ العملة الأجنبية إلى الخارج، ثم تباعُ في السوق السوداء، وتتقاسمُ الأطرافُ وشبكاتُ السّوءِ مِن الموظفين عن طريقِ الوسطاءِ الرشاوَى، التي يسمونها أجرةً وعمولةً، وهم في الواقع يتاجرون بأقواتِ الناسِ وأرزاقهم، فلا يأكلونَ في بطونهم إلا نارًا تلظّى، وأوجاعًا وأمراضًا تتقوّى، ولا يبارَك لهم في مال ولا عافيةِ بدن؛ لأنهم يأكلون أموالَ الفقراء والضعفاء والأرامل واليتامى والنساء، وهم الشريحة الكبيرةُ مِن عامة الناسِ، وكلما ازداد على هؤلاء الوسطاءِ والموظفين المالُ الحرامُ، ازدادَ جَشعُهم، ونُزعت منهم البركةُ، وصاروا كالذي يأكلُ ولا يشبعُ، قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة:275].
وقد صار لا يخفى على أحدٍ، أنّ بعض مَن يملكون التوقيعات من العاملين والمسؤولين على فتح مثل هذه الاعتماداتِ، يعرقلونَ إجراءاتها، ولا يسمحون بمرورها مجانًا، دون أن تكون لهم فيها حصة عن طريقِ الرشاوى، ولهم زبانية لا يعملون موظفين في تلك الإدارات – كما ذكر السائل – ولكنهم شبكة واحدة، متفقون معهم سلفًا على نصيب كلِّ واحد، عند إيقاع الضحيةِ في شباكِهم، فإلى الله المشتكى.
وكلّ لحمٍ نبتَ من سحتٍ فالنار أولَى به، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يَرْبُو لحمٌ نَبتَ مِن سُحتٍ إلَّا كانتِ النارُ أَولَى به) [الترمذي:614].
ونأمل مِن كلّ مَن يعنيه الأمر في هذا البلد، مِن الأجهزة الرقابية والقضائية في ديوان المحاسبة، وهيئة الرقابة الإدارية، ومكتب النائب العام؛ أن يتعاونوا، ويقومَ كلٌّ منهم بما يقتضيه القانون في تتبعِ الفسادِ، في هذه القضية الحيوية، التي تتحكم في قوتِ الناسِ، فإنهم إنْ تحملوا مسؤولياتهم، بإصدار القرارات والأحكام التي تردع المجرمين، كانوا مأجورين الأجرَ العظيم، ومَن قصَّرَ مِن المسؤولين، ممن له علاقة بهذا الشأن – أيًّا كان موقعُه – في ملاحقتهم؛ كان شريكًا لهم في الإثم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكُم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتهِ) [البخاري:853]، ولا يجوز التهاون، ولا تعطيل الأحكام، ولا حفظُ الشكاوى في مثل هذه القضايا، التي تمسُّ كلّ مواطنٍ، ويدفع كل يوم ثمنها باهظًا.
وكل من له علاقة من عامة الناس، ويملك الأدلة على هذا الفساد، مطالبٌ برفع القضايا عليه للمحاكم؛ لأن مسؤولية محاربة المنكر في الشريعة تضامنية، تجبُ على كل مَن يقدر أن يقومَ بها؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وَاَللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا) [أبوداود:4366]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ) [الترمذي:2169].
ولا يُلبّس أحد على هؤلاء، ولا يلبّسون على أنفسهم، بدعوى أن ما يفعلونه هو مِن قبيلِ عملِ المكاتبِ العقارية وغيرها، فإنّ وَساطاتِهم غيرُ مشروعةٍ؛ لأنها تحايُلٌ مع مَن لهم صلاحياتُ توقيعِ هذهِ العقودِ، للوصولِ إلى الرّشَى والمالِ الحرام.
وكلُّ مَن يعنيه الأمر، ويرغبُ في الاطلاعِ على الإجراءاتِ الشرعيةِ الصحيحةِ لفتحِ الاعتماداتِ المستنديةِ، التي يفتحها العميلُ مع المصارفِ؛ فإننا نحيلُهُ إلى فتوى دار الإفتاءِ الصادرةِ بهذا الشأنِ، تحتَ رقم (2057)، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
13/شعبان/1439هـ
29/إبريل/2018م