المرابحة الإسلامية في السفر لأداء العمرة
تكرار الحج والعمرة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رقم الفتوى (5556)
ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:
أملكُ شركةً تقدم خدماتِ العمرة، ولدينا عدةُ عروض، منها عقدٌ مدتُه سنتان أو أكثر، مقابل تكاليفِ رحلةِ عمرةٍ لعدد من الأفراد، شاملا قيمةَ التأشيرة والسكن، وتحددُ القيمةُ حسبَ مستوى الخدماتِ المطلوب، ويذكرُ حين العقد جميع التفاصيل -كما بالنموذج المرفق- ويدفع فيه المشترك مبلغًا مقدمًا، يكون جزءًا من تكاليفِ العمرة، وللعميل فسخُ العقد خلالَ ثلاثة أيام، ويسترجعُ نصفَ قيمة المقدّم، وليس له فسخُه بعد ذلك، أو استرجاعُ شيء منه، وله أن يتنازلَ عن العقد لغيره، فما حكم ذلك؟
الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالعقد على خدمات العمرة مِن سكنٍ ونحوه هو من قَبيلِ بيع المنافع، والتعاقدُ عليها جائزٌ بشرط أن تكون معلومةً، خاليةً من التغرير والجهالة؛ قال اللخمي رحمه الله: “ومن اكتَرى منافعَ فله أن يبيعَها من غيره، والمنافعُ والرِّقابُ في ذلك سواءٌ” [التبصرة:11/5162]، وقال ابن قدامة رحمه الله: “والمنافع بِمَنْزِلَةِ الأَعْيَانِ؛ لِأَنّهُ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا فِي حَالِ الحَيَاةِ وَبَعْدَ المَوْتِ، وَتُضمَنُ بِاليَدِ وَالإتْلَافِ، وَيَكُونُ عِوضُها عَيْنًا وَدَيْنًا” [المغني: 5/322].
وتأخذُ هذه الخدماتُ حكمَ السلعة التي يصحُّ بيعُها مرابحة؛ بالتقسيطِ أو نقدًا، ويشترطُ لجواز العقد أن تمتلك الشركةُ المنفعةَ حقيقة؛ بأن تتعاقدَ عليها بالفعل وتكون في ضمانها، وعليها تبعاتها، وبعد ذلك لها أن تقومَ ببيعها إلى العميل بيعًا حالًّا أو بالتقسيط، لا أن تلتزمَ مع المعتمرينَ أوَّلًا ثم تتعاقد على المنافع التي ستبيعُها لهم، فذلكَ لا يحلّ؛ لأنه يدخلُ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) [أبوداود:3503].
والصورة المذكورة في العقد، التي تمكن العميل من الانتفاع بالعقد ولو بعد سنواتٍ، تدخل في الصورةِ الممنوعةِ؛ لاشتمالها على بيع المنفعة قبل تملكها.
كما يشتملُ العقدُ على مخالفةٍ أخرى، وهي عدمُ ردِّ العربونِ إذا تركَ المعتمرُ إتمام التعاقد؛ لأنه من أكلِ المال بالباطل، وقد نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربونِ على هذا الوجه [أبوداود:3502].
ثم إنّ الذي ينبغي أن يَتوجهَ إليه إنفاقُ الناس في هذا الوقت -بدل متابعةِ وتكرارِ التطوع بالحج والعمرة، الذي صارَ أقربَ إلى السياحةِ والفسحةِ منه إلى إخلاصِ العبادة- ينبغي أنْ يتوجّهَ الإنفاقُ إلى ما هو أوْلَى ونفعُه أعمّ للمسلمين، وهو بذلُه في رفعِ راية الجهادِ لتحريرِ بلاد المسلمين ومقدساتهم، وبذلُه في قضايا الأمةِ لدفعِ الضرِّ النازلِ بها مِن الضعفِ والهَوان، كإنفاقه على رفعِ مستوى التعليمِ والمراكزِ البحثية، وعلى تأهيلِ العلماء في مجالاتِ الصناعة والإدارة والمال والاقتصاد والعلوم التطبيقية والتجريبية، وعلى تأهيلِ علماءِ الشريعةِ، القادرين على قولِ الحقّ وتعليم الناس الأولوياتِ الواجب عليهم إقامتُها في كلِّ وقتٍ بحسبه.
ومِن أولويات ما تُنفقُ فيه الأموالُ هذه الأيام؛ إخراجُ المسلمين مِن عبوديةِ عملاءِ أعدائهم، مِن الحكام المسلّطينَ على رقابهم، بتحريرِ بلادهم وتحريرِ إرادتهم وقرارِهم، وتخليصِهم من قبضةِ الأجنبي.
فهذا هو المتعينُ في هذا الوقت؛ لتعودَ العزةُ لدينِ الله وللمسلمين، فرفعُ ظلمٍ عن مظلومٍ واحدٍ أعظمُ عند اللهِ من عبادةِ سَنة، ومن بناءِ مسجد، فقد رويَ عن ابنِ عمر رضي الله عنهما أنه قال: رأيتُ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يطوفُ بالكعبة وهو يقول: (مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتكِ، والّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لحُرْمَةُ المُؤْمنِ أَعْظَمُ حُرمةً عِندَ اللهِ مِنكِ؛ مَالُهُ وَدَمُهُ وَأَنْ يُظنَّ بهِ إلّا خيرًا) [ابن ماجه:3932].
وغيابُ هذه المعاني العظيمة التي هي من الفقه في الدين، الذي مدح النّبي صلى الله عليه وسلم أهله في قوله: (مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ) [البخاري:71]، هوَ الذي جعلكَ ترى المسلمينَ يتزاحمونَ على التطوعِ بالحج والعمرة، وينفقون فيها الأموال الطائلة، وأهلُ غزّة وفلسطينَ يبيتونَ على الطَّوى، ويموتونَ من المجاعة، يحاصرهم اليهود وحلفاؤهم على مدى خمسةِ أشهر، ينتهكونَ حرماتِ المسلمين وأعراضَهم وأعراضَ نسائهم في فلسطينَ، بما يندَى له جبينُ الإنسانية، فلم يستطعِ المسلمونَ لهوانِهم – لا حكَّاما ولا محكومين – أن يفكُّوا عنهم الحصارَ حتى بإيصالِ الطعام إليهم، فضلًا عن أنْ يغزوا معهم ويقاتِلوا دونَهم.
فالغزوُ بالمال والنفسِ في هذا الوقتِ أفضلُ من التطوعِ بالنوافل الأخرى، بما فيها الحجُّ والاعتمار؛ لأنَّ الغزوَ صارَ متعينًا لا نافلة؛ ولأنه العبادةُ التي ليس فيها للنَّفس حظٌّ في هذا الوقت، لذا تنصرفُ عنه النفوسُ وترغبُ عنه، وتُقبلُ على صرف الأموالِ الطائلةِ على التطوع بالعبادةِ في مكة؛ لما يصحبُها من السياحةِ والإقامةِ في القصورِ والفنادق، وما فيها مِن الملاهي والزينة؛ التي تهواها النَّفسُ في هذه الأيّام، والله أعلم.
وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم
لجنة الفتوى بدار الإفتاء:
عبد الرحمن بن حسين قدوع
عصام بن علي الخمري
الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
مفتي عام ليبيا
30//شعبان//1445هـ
11//03//2024م