المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (105)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (105)
(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[البقرة:197-199].
(وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) بعد النهي عن الفسوق والرذائل، حثَّ القرآن على صنع المعروف؛ الخير والبر والأعمال الصالحة، لتحلّ في الحج محل النقائص، وذكر بأن الله مطلع عليها، لا يخفى عليه منها شيء؛ ليزداد المؤمن وثوقًا بوعد الله تعالى بالجزاء (وَتَزَوَّدُوا) من التزود، وهو إعداد الزاد لآخرتكم بالأعمال الصالحة، ولمعيشتكم وأسفاركم للحج ولغيره بالتكسب واستصحاب النفقة، فلا تكونوا في الحج – كما كان يفعل قوم من اليمن – كلًّا عالةً على الناس، تأكلون أزوادهم، وتلحون عليهم بالسؤال، زاعمين أنكم متوكلون على الله، فهذا من التوكل على جيوب الناسِ، ومن عمل البطَّالين، لا من عمل المتوكلين، فإن كنت أيها الحريص على الطاعة، التي لا يتوصل إليها إلا ببذل المال، فابذل المال وتوكل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي ترك الناقة من غير عقال، وقال: توكلت على الله، قال صلى الله عليه وسلم له: (اعقلها وتوكل)([1]).
(فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) خير الزاد للآخرة والأولى مخافةُ الله، والأعمال الصالحة، والكدُّ لتحصيل الحلال هو من زاد التقوى، الذي يؤجر صاحبه؛ ليتجنب المسلم التعرض لذل مسألة الناسِ، والمال – كما هو مشاهد – صار أقوى سلاح في نصرة قضايا المسلمين، وحماية مجتمعاتهم وبلدانهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نِعمَ المالُ الصالحُ للرجلِ الصالحِ)[2]، وقال: (اليدُ العُليا خيرٌ مِن اليدِ السُّفلى)[3] (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) الألباب جمع لُب، وهو الخالص من كل شيءٍ، ولم يأتِ مفرد الألبابِ في القرآن، والمراد بأولي الألباب أصحاب العقول الراجحة، وفعلُه لَبّ يلُب بالضم، مِن باب كرُم، قالوا: ولا نظير لوزنه من الفعل المضاعف في العربية، وفي الآية نداء لمن حباهم الله تعالى بالعقول الراجحة، أن يخلصوا في تقواهم، فيجعلوها لله وحده دون شائبة، وأن يستعملوها فيما ينفع أوطانهم والمسلمين عامة.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) لا حرجَ ولا إثمَ عليكم (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) لا لوم عليكم في أن تطلبوا من ربكم خيرًا وربحًا في تجارتكم، فليست التجارة في الحج محظورة، إذا لم تشغل عن العبادة، وقد كان للعرب أسواق سنوية؛ عُكاظ كغُراب، ومَجَنَّة كمَبَرَّة، وذو المجاز كضدّ الحقيقة، كانت هذه الأسواق تنعقد في الموسم، فلما جاء الإسلام تحرّجوا منها، فرفع عنهم الحرج بقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) ، بل جعل الربح والكسب من فوائدِ الحج ومنافعه، كما قال سبحانه وتعالى: (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)([4]) (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ) الإفاضة: الخروج بغزارة وكثرة، كإفاضة الماء وانصبابه، ومِن ابتدائية، والمراد: انطلاق الحجيج بجموعهم الغفيرة، خارجين من الموقف إلى المزدلفة.
و(عَرَفَاتٍ) علم على المكان، لا مفرد له كأذرعات، فلا يقال: وقفت بعرفة، وما وردَ في الحديث: (الْحَجُّ عَرَفَةُ)([5]) هو لليوم التاسع من ذي الحجة، وليس للموضع، كما نبهوا عليه، وبعض النحاة يمنع عرفات من الصرف، للعلمية والتأنيث([6]).
والوقوف بعرفات هو أعظم أركان الحج، كما في الحديث المتقدم، وذكرت الإفاضة من عرفات للرد على قريش، كانوا في الجاهلية يقفون بالمزدلفة، ولا يقفون مع الناس في عرفات؛ لأن مزدلفة من الحرم، وعرفات بالحل، يقولون لأنهم أهل الحرم فلا يخرجون للوقوف خارجه (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) المشعر الحرام: المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم للذكر والدعاء بالمزدلفة، وهو جبل قزح، على وزن عمر، وسمي مشعرا لأنه معلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته وتعظيمه، ولكونه داخل الحرم، ولفظ (عند المشعر) يشعر بأن الوقوف يكون بالمشعر الحرام وما حوله وما يليه من المزدلفة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (وَقَفْتُ هَاهُنَا، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)([7])، إلا وادي محسِّر، فإنه لا يصلح للوقوف؛ لأن آخره مِن مِنى، و(جَمْع) اسم المزدلفة، سميت بذلك لاجتماع الحجاج فيها، وفي حديث جابر رضي الله عنه: (أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر- يعني بالمزدلفة بغلس- ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفًا حتى أسفر)([8]) (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) ما مصدرية، وهداكم: دلَّكُم وأرشدَكم وعلَّمَكم ووفَّقَكم للوصولِ إلى المشعرِ الحرامِ، وقد أمر الله أولًا بالذكر عند المشعر الحرامِ أمرًا مطلقًا، ثم أمرَ به أمرًا مقرونًا بالتذكيرِ بنعمةِ الهدايةِ والتوفيق؛ ليكون حافزًا على بذلِ الوسعِ، واغتنامِ الوقتِ في التضرعِ والذكرِ والدعاء في هذا المكان (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (إِنْ) مخففة من الثقيلة، وعليه تكون اللام في (لَمِنَ الضَّالِّينَ) اللام الفارقةُ، الدالة على أنّ (إنْ) ليست نافية، وإنما مخففة من الثقيلة، والمعنى: وإنّه – أي الحال والشأن – قد كُنْتُم من قبل الهداية من الضالين، ويمكن أن تكونَ إنْ نافية، واللام بمعنى إلّا، أي: ما كُنْتُم قبل الهداية وتعليمكم الإيمان وأحكام الإسلام إلا في جاهلية، من الضالين عن الهداية، المنحرفين عن الحق، كما في قوله سبحانه وتعالى: (وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ)([9]).
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) عطف على قوله: (فاذكروا الله)، والتقدير: إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله، ثم إفاضتكم يجب أن تكون من المكان الذي يقف به الناس، لا مِن مكان آخر يخالفهم، فتكون (ثُمَّ) للترتيب الذكري، لا الترتيب الزمني، والخطاب (أفيضوا) لجميع المسلمين، والناس المراد بهم عموم قبائل العرب غير قريش، ومَن دانَ دينَهم، قالت عائشة رضي الله عنها: “كَانَ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ أَمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ نَبِيَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ فَيَقِفَ بِهَا، ثُمَّ يُفِيضَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)”([10])، (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تأكيد على طلب الاستغفار في هذا الموقف، بعد طلب عموم الذكر.
[1]) الترمذي: 2707.
[2]) مسند أحمد:17346.
[3]) البخاري:4762، ومسلم:1034.
[4]) الحج: 28.
[5]) الترمذي: 889.
[6]) وتنوينه في الآية (مِنْ عَرَفَاتٍ) تنوين مقابلة، عوضا عن النون في جمع المذكر السالم، أي: جيءَ به في مقابلة النون في جمع المذكر السالم، فليس تنوين عرفات تنوين تمكين، يدل على تمكن ما دخل عليه من الإسمية، فلا يشبه الفعل، فيكون مصروفًا، فتنوين التمكين هو الذي ينافي وجودُه المنع من الصرف، وليس تنوين المقابلة، وبعض النحاة يصرف عرفات؛ لأن التاء فيه لصورة الجمع لا حقيقته، وليست للتأنيث.
[7]) مسلم: 1218.
[8]) مسلم: 3014.
[9]) الشعراء: 186.
[10]) البخاري: 4520، مسلم: 2926.