المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (104)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (104)
(فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:196-197].
(فَإِذَا أَمِنْتُمْ) أمنتم مِن أَمنَ كفَرِحَ: إذا سلِم مِن كلّ ما يُخاف منه، وأمِن المحصر إذا عاد قادرًا على أداءِ نسكهِ (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) جوابُ الشرطِ (إذا أمنتم)، أي: فمَن أمِن فانتفعَ بعد أمنه بالعمرة واعتمر، وبقي حلالًا مترفهًا منتظرًا إلى وقتِ الحجّ وحَجَّ؛ فقدِ استمتعَ، واستمتاعُه أنّه تحللَ مِن عمرتِه، وترفّه بفعلِ محظوراتِ الإحرامِ، ثم انتظرَ وظفرَ بالحجّ، فأحرمَ بهِ دونَ أنْ يتكلّفَ سفرًا آخرَ للحجِّ، مَن تيسّر له ذلك فهو بالمعنى العام متمتّعٌ، سواء كان حجُّه في نفس عام عمرته أو مِن قابِل، وهذا المعنى العام للتمتع أضافَ الشارعُ إليه قيدًا، وهو أن تكون العمرةُ في أشهر الحج، ثم يُحِل المعتمرُ منها ويحج مِن عامِه، وعلى المحرم لقاء هذا الاستمتاع بالمعنى الخاص ما تيسر من الهدْيِ، وهو عند جماعةٍ من أهل العلم – ومنهم المالكية – هديُ نسكٍ وشكر، كنسك الأضحية، له أن يأكلَ منه، وعند آخرين هو جبر عن نقص، كنسك الفدية، لا يجوز الأكل منه؛ لأنّ المتمتعَ يحرم بالحج مِن جوف مكة، ولا يأتي به من ميقاته.
وأنواعُ الإحرام بالحج ثلاثة؛ أحدُها التمتع الذي مرَّ، والثاني القِران، وهو الإحرام بالحج والعمرة معًا في وقتٍ واحد، أو بالعمرة أولًا ثم يردفُ الحج عليها، قبل الانتهاء من طوافها، والثالث الإفراد، وهو الإحرام بالحج وحده ليس معه عمرة، إلى أن ينتهي منه.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) من لا قدرة له على ثمن الهدي (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) في وقت أفعال الحج، أي: مَن لم يقدر على الهدي يكفيه أن يصوم ثلاثة أيام، يبدأ وقتُها من حين أن يحرم المتمتع بالحج، آخره يوم عرفة، ومن فاتته أفطر يوم العيد، وصام أيام مِنى وأساءَ؛ لأن أيام التشريق أيام أكل وشرب، لا أيام صوم، فلا تصام إلا لمن فاته صيام الهدي قبل عرفة (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) والسبعة الباقية مخير في وقتها، له أن يصومها بعد أيام منى في مكة، أو بعد الرجوع إلى بلده، عند أكثر أهل العلم ومنهم المالكية، ولا تكفي في مكة بعد الرجوع من منى عند بعض أهل العلم (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) تلك العدة من أيام الصوم لمن لم يجد الهدي مجموعُها عشرةٌ، فذُكرت تفصيلا ثم إجمالًا، تنصيصًا على عددها، وأنه عشرة، حتى لا يتوهم أنّ ذكر السبعةِ لمجرد الكثرة، وليس تحديدُ العدد مقصودًا، أو لئلا يتوهم أن الواو في قوله: (وسبعة إذا رجعتم) هي بمعنى (أو) التي للتخيير والإباحةِ، على حد قولهم: جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين، على التخيير بينهما، أي: الحسن أو ابن سيرين، ثم أُكّدت بأنها كاملة؛ للتنويه بأنه لا يقتصر على بعضها (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) الإشارة إلى وجوب الهدي على المتمتعِ، هذا الوجوب هو على من لم يكن أهله مِن أهل مكة، بأن كان من القادمين إليها لغرض النسكِ، فهو الذي انتفع بالتمتع، ووفّر على نفسه السفر مرتين، أمّا مَن كان أهلُه في مكة وما حولها – على أميال قليلة على أحد الأقوال وبه أخذ المالكية، أو على أقل من مسافة القصر وبه أخذ الشَّافِعِيُّ، أو كان داخل المواقيت وبه أخذ الأحناف – فليس عليه إنْ تمتعَ هديٌ ، لأنه ممن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام (وَاتَّقُوا اللهَ) أمرٌ عام بالتقوى، وهي الوقوف عند أمر الشرع ونهيه، وجاء التنبيه عليها عقب أحكام الحج؛ لما في الحج من المشقة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لمن عصاه، ولم يقف عند أمره ونهيه.
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) الآيات السابقة من قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلهِ) إلى هنا، سيقت في بيان بعض أحكام العمرة، وما وقع للمسلمين في الحديبية، وذكر الحج فيها كان مقدمة وتوطئة، وتطمينًا ووعدًا للمسلمين بأن الله سيمكنهم من ذلك آمنين، ومِن قوله هنا: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) بدأت الآيات في تفصيل أحكام الحجّ، فلعل نزولها كان بعد أن فُرض الحج في السنة التاسعة، بقول الله تعالى: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)([1]) (أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) أي: في أشهر معلومات، كقولهم: الرُّطَبُ شَهرَا ربيعٍ، أو الحج وقته أشهر معلومات، أي وقت أفعاله ومناسكه أشهر معلومات، كما تقول: البَرْدُ شَهران، أي وقتهُ (مَعْلُومَاتٌ) معروفات، وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة عند جمهور أهل العلم، وعند المالكية شهران وعشر من ذي الحجة، أو ثلاثة عشر على قول آخر، ويترتب على القولين الأخيرين؛ أنّ مَن أخَّرَ الإفاضةَ أو غيرها مِن أعمال الحج إلى آخر ذي الحجة، لزمه هديٌ؛ لأنّه أوقعه قضاءً خارجَ أشهر الحج، بخلافه على الأول، فثمرةُ الخلاف بينهم هي وجوب الهدي على من أخر الطواف إلى آخر ذي الحجة وعدمُه، وأٌطلق على الشهرين وبعض الثالث في الآية أشهر، تسميةً للجزء باسمِ الكلِّ (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) فمن أوجب على نفسه الحج في هذه الأشهر، بأن نواه بالإحرام، وألزم نفسه به، وضمير فيهن راجع إلى قوله أشهر؛ لأنه جمعٌ لغير العاقلِ، فيجري مجرى جمع المؤنث، وقوله: (فَلَا رَفَثَ) جواب الشرط في قوله: فمَن فرضَ، و(لَا) نافية للجنس، و(رفث) اسمها منصوب، والرفث: الجماع والكلام في الالتذاذ بالنساء، وتقدم الكلام عليه في قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، (وَلَا فُسُوقَ) الفسوق مصدر كالدخول، ومعناه: الخروج عن أوامر الشرع بفعلِ المعاصي والسيّئات (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) أي في أيامه، والجدال: المراء والخصام الشديد بالسباب والمغاضبة والمشاتمة، مع الرفقة والخدم، ومع البائع وصاحب الفندق والسيارة، ومَن يريد الجلوس إلى جنبك في الحرم أو يزاحمك، وكذلك ما كان من جدال قريش ومَن نَحا نحوها من قبائل العرب، في مكان الوقوف في الحج، كانت قريش لا يقفون بعرفات، مخالفين معظم قبائل العرب، ولا يدخل في الجدال المدارسة والمناظرة في العلم، ولا إنكار المنكر، ولا تعليم الجاهل وتبيين الحق.
والنهي عن الرفث وما بعده جاء بصيغة نفي الجنس لوجودهِ مبالغةً، حتى كأنه غير موجود، وأن مَن نُهي عنه قد امتثل وانتهى، وانتفى عنه الفعل، وهذا كثير في الكتاب والسنة، وخصت هذه المنهيات بالذكر في الحج، وإن كان بعضها قبيحًا في كل وقت؛ لأن الغالب عدم السلامة منها في الموسم، بسبب التزاحم الواقع في الحج، واختلافِ طبائعِ الناس، ولأنها في وقت الإحرام أشدّ قبحًا؛ لانقطاع المحرمِ لربه، وتجردهِ عن ترفيهِ نفسِهِ.
[1]) آل عمران: 97.