المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (111)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (111)
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)[البقرة:213-214].
(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (أُوتُوهُ) أُعطوه (الْبَيِّنَاتُ) الحُججُ والدلائلُ (بَغْيًا) اختلفوا فيه بغيا([1])، والبغي: الظلمُ، وهو مستعمل هنا في نوع منه وهو الحسد، وأصلُ البغيِ في اللغةِ الطلبُ، ثمّ شاعَ في طلبِ ما عندَ الغيرِ ظلمًا بغيرِ حقٍّ، وهذه الآياتُ تذكرُ نوعينِ من الاختلافِ؛ النوع الأول منه، يشير إلى الاختلاف الذي حدث عندما كان الناس أمة واحدةً على الفطرة، وحصل الانحراف عنها إلى الشركِ، فأخبرَ الله تعالى أنهُ بعث إليهم الرسلَ لإصلاحِهِ، وردّهم إلى التوحيدِ، وهو المشار إليه بقوله: (كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النّبِيّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).
والنوع الثاني من الاختلاف، هو الذي ذكرهُ اللهُ في هذه الآية، في قوله: (ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) فهو اختلافٌ آخر، وقعَ للناسِ بعد بعثةِ الرسلِ، وإنزالِ الكتبِ عليهم، حيث اختلفَ أهلُ الشرائعِ فيما بينهم في الحقِّ، فيما هو من أصول الدين، واختلفوا مع غيرهم من أهلِ الشرائعِ الأخرى، فصارَ كل فريقٍ يدعي الحقّ ويخطِّئُ الآخرَ، مثل قول اليهود: ليست النصارى على شيء، وقول النصارى: ليست اليهود على شيء، ووقعَ هذا لهم بعدَ ما جاءتهم البيناتُ والدلائلُ والحُجَج الواضحةُ، التي من شأنِها رفعُ الخلافِ وبيانُ الحقّ، فعَكَسوا الأمرَ، وجعلوا ما جاءَهم من البيناتِ سببًا للخلافِ، بدلَ أن يكونَ جامعًا لهم على الحقِّ، فعلوا ذلكَ بغيًا بينهم، وظلمًا لأنفسِهم ولغيرِهم، مِن أجلِ الحسدِ، والتنافسِ على الدنيا (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم المسلمون، أرشدَهم ودلَّهُم (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) مِن في: (من الحق) بيانيةٌ، أي: أرشدَهم لبيانِ الذي اختلف فيه غيرهم، وهو الحقُّ، فقد اختلف أهلُ الدياناتِ السابقةِ، وحرفوا الكتبَ، وأنكروا الرسالاتِ، وبدّلوا وغيّروا، وكتموا الحقَّ، ورمَى كلُّ فريقٍ الآخرَ بأنّه ليس على شيءٍ، فجاءَ دينُ المسلمينَ الخاتم ببعثةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وحفظَ بالقرآنِ ما اختلفَ فيه الآخرونَ وضيعوهُ من الحقِّ، وكان ذلك بسببِ أنّ الله تعالى أذِنَ لهم في هذا الحفظ للدين، ووفَّقَهم إليه، والاختلافُ الذي ذمَّه القرآنُ هنا، وفي مواضعَ عديدةٍ، هو الاختلافُ في الأصول، المتعلقُ بالإيمانِ والتوحيد والقطعيات، وليس اختلاف الاجتهادِ في الفروعِ، الناشئ عن الاجتهاد في الدليل، فذلك اختلافٌ ممدوحٌ، للمصيبِ فيه أجرانِ، وللمخطئِ أجرٌ، وفي قوله: (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) دليلٌ على المذهبِ الراجح، مِن أنّ الحق والصوابَ في المسائلِ الاجتهاديةِ واحدٌ، وفي تقييدِ مَن وقعت عليهم الهدايةُ بالمؤمنينَ، ما يُشعرُ أنه عندَ الحيرة والتباسِ الأمورِ واحتدامِ الخطوبِ، فإنّ الله تعالى يتولَّى الذينَ آمنوا، الذين عرفُوه في الرخاءِ بالطاعة واللجوء إليه، ولا يتركهم، فيعرفُهم في الشدةِ، وينيرُ لهم طريقَهم، ويبصِّرهم به، ويهديهم للحقِّ الذي اختلف فيه الناسُ، بإذنهِ وتوفيقهِ وتأييدِه، ويجعل لهم فُرقانًا (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) يوفقُ مَن يشاءُ إلى الطريقِ المستقيم طريقِ الحقِّ، الذي لا اعوِجاجَ فيه، ومَن سلكَهُ وهُدي إليه نَجا.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) (أَمْ) للاستفهام، وهي أمِ المنقطعة، بمعنى بل، للإضراب، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، والخطابُ في (حَسِبْتُمْ) للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وهو خطابٌ من الله تعالى بضمير الحضور، يُشعر بمزيد الاهتمام بمضمون الكلام الذي بعده: (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)([2])، والمعنى: أظننتم أن تدخلوا الجنة، ولم يحصل لكم بعدُ مِن الابتلاء وشدته مثل الذي حلَّ بمَن قبلكم، أي: فلا تعجبوا إن ابتُليتُم، فهم أيضًا (مَسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ) وجملة (مستهم السراء والضراء) مؤكدةٌ لمضمونِ ما قبلَها، وقعتْ جوابًا لسؤال، كأنّ قائلًا قال: ما أصابَ مَن كان قبلنا؟ فقيل له: مستهُم في الابتلاء (الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) الشدائدُ البالغة، والآلام الموجعة، وابتلوا بمكر أهل الباطل وكيدهم، ودافعوهم نصرةً لدين الله، وتحمّلوا في ذلك المشاق الطويلة، حتّى تقطعت مِن شدتها وطولها حبالُ الصبر، وزلزلوا، واضطربت القلوبُ ممّا أصابها مِن الضرِّ والجزع.
وفي ارتباط الآية بما قبلَها، درسٌ في تربية وتهذيبِ نفوسِ المؤمنينَ، وفي حمل النفسِ على الشدائدِ والمحنِ؛ وصولًا إلى المقامِ الرفيعِ، بالصبرِ على الضرِّ، إلى أن يأتيَ الفرجُ، فإنّ الآية السابقة: (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) أفادَت مدحَ هذه الأمةِ، وأنّهم محفوفُونَ بالهدايةِ، فلا يصيبُهم الاختلافُ بالتحريفِ في أصولِ الدينِ، الذي أصابَ مَن كان قبلهم، لكن لمّا كان هذا قد يكونُ مَدعاةً للغرورِ، جاء الإضرابُ في هذه الآية عن الكلام السابقِ بـ(أَمْ حَسِبْتُمْ)، كأنّه قيلَ لهم: دعوا عنكم هذا لئلَّا تغتَرّوا، فالأممُ الماضيةُ أيضًا كان فيهم صالحونَ، ضربوا المثلَ في الصبرِ على ما أصابهم في الله، كان فيهم مَن يؤتَى بالمنشارِ، فيشقّ مِن مفرقِ رأسِه إلى أخمصِ قدميهِ إلى نصفينِ، وما يصدّه ذلك عن دينِهِ، فإذا وقع لكم شيءٌ مماثلٌ لهذا، فاعلمُوا أنّه مِن سُنن الله في الابتلاءِ للتمحيصِ، فإنّ دخولَ الجنة للمؤمنين دخولَ التكريمِ دونَ محنةٍ ولا عذابٍ، مرهونٌ بالثباتِ على الدِّينِ، والتحملِ في سبيله، مهما كانتِ الشدائدُ.
وأصل الزلزلة في قوله: (وزُلزِلُوا) حركة الجسم واضطرابه، والتضعيفُ في الفعل دالٌّ على التكرر والتمكن (حَتَّى يَقُول الرَّسُولُ) إن كان القائل رسولًا معينًا من الأمم السابقة، فـ(أل) فيه للعهد، وإن كان المقصود أنّ كلَّ رسولٍ ممن سبق كان هذا قوله عند الابتلاء، تكون (أل) للاستغراق، وهو الأقرب، وفي (يَقُول) قراءتان؛ بالنصب والضم، وحتى للغاية التي بلغتها الزلزلة([3]).
وعلى قراءة الرفع يكون الرسول القائل: (مَتَى نَصْرُ اللهِ) هو الواحدُ مِن رسل الأمم الماضية، نقوله نحن في الحال، حكاية لقولهِ وقولِ من معه، بسببِ ما أصابهم، و(مَتَى نَصْرُ اللهِ) استفهامٌ، قالوه استبطاء للنصر وتأخره، فجاء الرد من الباري تباركَ وتعالى تطمينًا لهم وتثبيتًا: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ).
[1]) فبغيًا مفعولٌ لأجله، متعلق بمحذوفٍ تقديره: اختلفوا بغيًا، ولا يصح تعلقُه في المعنى بـ(أُوتُوهُ)؛ لأنه يجعل الإيتاءَ لأجل البغي، وهو فاسدٌ، ولا تعلقه بـ(اخْتَلَفُوا) المذكور قبل (إِلَّا)؛ لأن ما قبل (إلّا) لا يعمل فيما بعدها، ولما يترتب عليه من تعدد المستثنى المفرغ بـ(إلّا)، ولا يتعددُ عند النحاة إلّا بالعطفِ أو البدليةِ.
[2]) الواو في (ولمَّا) للحال، ولمَّا أصلُها لم، زيدَت عليها ما، أفادت تأكيد النفي المصاحب للحال، مع توقع وقوع الفعل، كالتوقع الحاصل مع قد.
[3]) ينصب الفعل بعد حتى التي للغاية إذا أريدَ به المستقبل، كقولك: سرتُ حتى أدخلَ البلد، ويرفع إذا أريد به الحاضر، كقولك: مرض حتى لا يرجونَه.