المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (118)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (118)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222].
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى)([1]) المحيض هو الدم النازل من رحم المرأة في الأوقات المعتادة، والسؤال عنه هو سؤالٌ عن قربان المرأة وقتَ الحيض، فقد ورد في سبب نزول الآية عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه: (أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ) إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اصْنَعُوا كُلَّ شيءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ)([2]).
(أَذًى) الأذى: الوصب والضرّ لا يكون فاحشًا ولا بليغًا، كما قال تعالى: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى)([3])، فهو القذارة المؤذية، الحاصلة للطرفين عند مجامعة الحائض، وسياق (قُلْ هُوَ أَذًى) سياق السبب لما سيذكر بعده، من الأمر باعتزال الحائض؛ لتتهيأ النفوس لقَبول الحكم بعد معرفة علته (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ) الاعتزال: الابتعاد عما الشأن فيه المخالطة، ومعناه النهي عن الجماع في الحيض، والنساء اسم جمعٍ، لا واحدَ له من لفظهِ، وهنَّ هُنا الزوجاتُ، بقرينة أمر الرجال باعتزالهنَّ، وقوله: (فِي الْمَحِيضِ) أي: في زمنِ الحيض([4]).
(وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ)([5]) النهيُ عن القِربان فُسرَ بالنهي عن الجماع خاصةً، عند جماعة مِن أهل العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا اَلنِّكَاحَ)([6])، وفسر بالنهي على عموم الاستمتاع فيما بين السرة والركبة، وبه قال بعض أهل العلم، ومنهم المالكية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا ثُمَّ شَأْنَكَ بِأَعْلَاهَا)([7])، (حَتَّى يَطْهُرْنَ) من الحيض بانقطاعه، وحتى للغاية، فالغاية التي ينتهي عندها النهي عن مباشرة الحائض هي الطهر (فَإِذَا) حصل هذا الطهر، ثم (تَطَهَّرْنَ) أي: اغتسلن([8]) (فَأْتُوهُنَّ) والإتيان كناية عن الوطء، والأمر فيه للإباحة؛ لأنه جاء عقب النهي، وتوقُّفُ إذن الوطءِ بعد الطهر على الاغتسالِ هو ما عليه جمهور أهلِ العلم، فالحائض إذا طهرت لا يقربها زوجُها إلا بعد الغسل، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ تطهرنَ بمعنى طهُرن، وأباحوا الوطءَ قبل الغسل، والأول أرجح (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)([9]) ائتوهن في المكان الذي أمركم الله، فحلُّ الوطءِ مقيد بكونه في المكان الذي أذنَ الله فيه، وهو القُبل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) هذا التعقيب سيقَ لمدحِ من حرص على الحلال، ولم يقرب النساء في المحيض، ولمن حافظ على النقاء والطهر من الرجال والنساء، فتجنَّب الرجلُ الأذى وتنظفَتِ المرأةُ منه بالغسلِ، وطيبت المحلّ، وفيه دعوة لمن تعدّى على ما نهي عنه أن يسارعَ بالتوبة والندم.
(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) زوجاتكم موضع حرث لكم، والحرث شق الأرض للزرع فيها، فكما أن الأرض موضع البذر لإنبات الزرع، فكذلك النساء؛ موضع النطفة لولادة النسلِ (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)([10]) أي: فأتوا موضع حرثكم من أي موضع شئتم، أو كيف شئتم، من أي جهة؛ من قدام أو مِن خلف أو على حرف، ما دام في موضع الحرث، الذي ينبت النطفة ويكثر النسل، وكان اليهود يقولون: إذا أتى الرجل امرأته مُجبية جاء الولد أحول، فسأَلَ المسلمون عن ذلك، فنزلت: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)([11]).
وذكر الحرث الذي يشير إلى محل الإنبات وزرع النطفة، التي يتولد عنها الولدُ، يمنعُ حملَ (أَنّى شِئتُم) على الإتيان في الدبر؛ لأنّ الدبر ليس محلَّ حرثٍ وإنبات، كما أنّ الإتيان في الدبر فاحشةٌ وخبثٌ، يتعارض مع التعقيبِ الوارد في قوله: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).
(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)([12]) قدّمُوا ما تقدرون عليه مِن أعمالٍ صالحةٍ لأجلِ أنفسكم، لا لغيرها، حتى لا تفوّتوا عليها الفرصة (وَاتَّقُوا اللهَ) بفعل الأوامر وترك النواهي، في أحكام النساء المتقدمة وغيرها (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ) ومن علم أنه يلاقي ربه ليحاسَب، استحَى وخافَ عاقبةَ الحسابِ (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) ومَن كان فعلُه فعلَ المؤمنينَ، فله البشارة، ولن يتِرَه الله تعالى عملَه.
[1]) الحيض والمحيض السيلان، يقال: حاض الوادي إذا سالَ، ومنه الحوض لسيلان الماء منه، وحاضت المرأة حيضًا ومحاضًا.
[2]) مسلم: 620.
[3]) آل عمران: 111.
[4]) على حذف اسمِ الزمانِ المضاف، وإقامة المضافِ إليهِ مقامه، وحذفُ المضاف كثيرٌ مع المصادر، كجئتُ نزولَ الغيث، وانتصارَ الجيش، وقدومَ الحاج.
[5]) عطفت جملة النهي عن قربانِ النساءِ – مع أنّها تأكيد وبيان للمعطوفِ عليه وهو الأمر بالاعتزال – وذلك للاهتمام بمضمون النهي، حتى كأنّه نهيٌ مستأنفٌ مستقل، وتقربوهن من قرِب يقرَب، كسمِع يسمَع، والمصدر القرِبان بالكسر على وزن ميعاد، غلب استعماله على هذا الوزن في مباشرة النساء، وعليه جاءت الآية، بخلاف القُربان بالضم، من قرُب كشرُف، فهو بمعنى الدنو مطلقًا في المباشرة وغيرها.
[6]) مسلم: 302.
[7]) الموطأ: 125.
[8]) تطهرن فعل الشرط (إذا) وجوابه (فَأْتُوهُنَّ) وجاءت صيغة الطهارة المعلق عليها حل المباشرة (حَتَّى يَطْهُرْنَ) من الفعل المجرد، التي لا تستدعي معالجة؛ لأنها طهارة تلقائية، تحصل بنفسها بانقطاع الحيض، والصيغة الثانية (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) جاءت من المزيد بصيغة التفعيل، التي تحتاج إلى فعل فاعل ومعالجة، كالتصبير والتطريز والتكريم، لتدل على أن جواب الشرط (فَأْتُوهُنَّ) متوقف على التطهير بالغسل من الحيض.
[9]) (مِنْ) بمعنى (في)، وحيثُ: ظرف مكان مبهم، لا يضاف إلا إلى جملة تميزه، وهي هنا: أمركم الله.
[10]) الأمر فيه للإباحة، و(أَنَّى) اسم مبهم، يكون بمعنى أين وكيف ومتى.
[11]) مسلم: 1435.
[12]) جملة (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) عطف على جملة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)، فإنّها – أي المعطوف عليها – وإن كانت خبرية لفظا فهي طلبية معنى، من جهة أنها تحضُّ على التوبة.