المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (123)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (123)
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 231-232].
(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) عودٌ على بدءٍ، تقدم الكلام عنه في الكلام السابقِ؛ مِن أحقية الزوج في مراجعة المرأةِ، مع نفي الضرر، والمعاشرة بالمعروف، أعيد ليُبنى عليه تأكيد النهيُ عن المضارة، وبلوغُ الأجل في قوله: (بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) المشارفة على انتهائهِ، والأجل: آخر المدةِ المضروبة للشيءِ، وهو هنا مستعملٌ في قرب نهاية مدةِ العدةِ لا في حقيقة انتهاء الأجل؛ لأنه إذا انتهى أجل العدة بالفعل فلا يتأتَّى الإمساك الآتي: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي: فالمطلوب إذا قربتْ مدةُ الخروج من العدةِ إمَّا الترجيعُ بمعروفٍ، المقصودُ منه التوافقُ وحسنُ العشرة، والوقوف عند حدود الله (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وإمّا بترك الترجيعِ حتى تنقضي العدةُ، فيقع الفراقُ، وتكونُ المرأة قد طلقت، ويجبُ أن يكون ذلك أيضًا بالمعروفِ، بأن يتركها بعدَ الفراقِ وشأنَها، فلا يمنعها مِن أن تتزوجَ، ولا يراجعها بنيّةِ أنْ يفارقَها، كما قال تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) فهذا فراقُ ضرارٍ، ضدّ فراقِ المعروفِ، وعلى أنَّ (ضِرَارًا) حالٌ ولام (لِتَعْتَدُوا) للتعليلِ، يكون المعنى: ولا تمسكوهنّ حالة كونكم مضارّين لأجلِ أن تعتدُوا، وعلى أن (ضِرَارًا) مفعول لأجله، تكونُ لام (لِتَعْتَدُوا) للعاقبة، ويكون المعنى: ولا تمسكوهن لأجلِ الضرار، لتكون عاقبةُ أمركم العُدوان، وجملة (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا) تصريحٌ بالنهي المفهومِ مِن الأمر بالإمساكِ بمعروفٍ، صرّح به لأنّ أكثر الفراقِ الذي على خلافِ المعروفِ يقصدُ به الأزواجُ الإضرارَ بالمرأةِ؛ لذا جاءَ التأكيد عليه منطوقًا ومفهومًا، أمرًا ونهيًا، فقد كان الرجل في الجاهلية يطلقُ، فإذا قرب انتهاءُ العدةِ رجعَ، ثم طلقَ، ثم رجعَ، ثم طلقَ، وهكذا لا يزالُ يفعلُ ضِرارًا، فنهاهُم الإسلامُ عن ذلك، وجعله اعتداءً وظلمًا، فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) مَن يمسك المرأة ضرارًا فقد ظلمَ نفسَه؛ لأنّ إضرارَه بالمرأة سيقابلُ بإضرارٍ مثله، ينكدُ عليه عيشَه، ولأنه تعدّ لحدود الله، يعرضه لعقاب نفسه، وهذه قاعدة مطردة؛ فمن أساء إلى أحد فإساءته في الواقع إلى نفسه، عائدة إليه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم)([1]) (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا) آيات الله: الأحكام والشرائع التي بينها القرآن، لا تكونوا معرضين عنها، بعد أن بينت لكم مفصلة، فيكون حالكم – بترك العمل بما علمتم – كحال المستهزئ بآيات الله، ومن اتخاذ آيات الله هزؤًا العمل بها بما يخالف مراد الله منها، ومقاصد شرعه، والتحايل عليها بما ظاهره امتثالها، وحقيقته العمل بضدها، مثل مَن يُرجع ليُطلق ضرارًا بالمرأة، ومثل مَن يجمع بين متفرق أو يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، “جَاءَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فقال له: إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةَ تَطْلِيقَةٍ، فَمَاذَا تَرَى عَلَىَّ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَلُقَتْ مِنْكَ لِثَلاَثٍ، وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا”([2]).
وتوضيح ذلك أن الحكمة من جعل الطلاق مرتين، هي إعطاء الفرصة للزوج ليراجع نفسه، ويعود من قريب، فجعله السائل لابن عباس مائة طلاق، ليقفل على نفسه الباب، ويعزم سلفًا على ألّا يعود، فاتخذ بذلك آيات الله هزؤا؛ لأن قصده بالطلاق عارضَ مقصدَ الشرع (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) نعمة الله مفردٌ مضافٌ يفيدُ العموم، فهي نعم كثيرةٌ لا تحصى، وعلى رأسها الهدايةُ، وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان الأحكام (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) ما أنزله الله تعالى من القرآن وعلوم الشريعة، التي منها السنة، إنّما هو لأجل الموعظة والتذكير، فجملة (يعظكم) خبرُ الموصول في قوله: (وما أنزله) (وَاتَّقُوا اللهَ) بالخوف منه وامتثال أمره واجتناب نهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد على التخويف ممن احاط علمه بكل شيءٍ، ولا تخفى عليه خافية.
(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) بلوغ الأجل هنا انتهاؤه وانقضاؤه حقيقةً؛ لقوله بعدُ: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) لأن العضل لا يكون إلا بعد البينونة وانقضاء العدة، وهو خلاف البلوغ الأول، الذي هو مقاربة انتهاء الأجل، قال الشافعي رحمه الله: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين. والعضل: الحبس والتضييق، والنهي متجه إلى منع المرأة، والمراد من النهي منعها من الزواج إذا خطبها الكفؤ، ضرارًا لغير مصلحة شرعية إذا أتاها الخاطب، والخطاب في قوله: (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ) لكل من يقع منه المنع والعضل، فقد يقع من الأولياء، كما ورد في سبب نزول هذه الآية: “أنَّ مَعْقِل بْن يَسَارٍ، قَالَ: كَانَتْ لِي أُخْتٌ تُخْطَبُ إِلَيَّ، فَأَتَانِي ابْنُ عَمٍّ لِي فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ طَلَّقَهَا طَلَاقًا لَهُ رَجْعَةٌ، ثُمَّ تَرَكَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَلَمَّا خُطِبَتْ إِلَيَّ أَتَانِي يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ: لَا، وَاللهِ لَا أُنْكِحُهَا أَبَدًا، قَالَ: فَفِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، قَالَ: فَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ”([3])، وقد يقع العضل من الأزواج، كمن يطلق ثم يمنع مطلقته مِن الزواجِ عدوانًا وظلمًا، وفي نهي الأولياء عن العضل دليلٌ على أنّ المرأةَ لا تُزوّج نفسَها؛ لأنها لو كانت تُزوجُ نفسَها لما نُهي الأولياءُ عن عضلِها، وفي إضافةِ النكاحِ إليها (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ) دليلٌ على أنّ المرأة لا تُنكح إلّا بإذنِها، والمراد بأزواجهنّ مَن كانوا أزواجًا وأَتوا خطّابًا، سمُّوا بذلك للتذكير بما كان بينهم مِن مودة الزوجية؛ ليكون ادعى لقَبولهم (إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ) الظرف (إِذَا) يتعلق بأن ينكحنَ، أي: لا تمنعوا النساء من النكاح، إذا حصل التراضي بينهنّ وبين الخطّاب، وكان هذا التراضي (بِالْمَعْرُوفِ) بما هو معروف في الشرع ولا ينكره.
والإشارة في (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ) إلى ما تقدم من الخطَاب، الموجهِ إلى الأزواج والأولياء والنساء (يُوعَظُ بِهِ) ويحذر مِن مخالفته (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تذكير لهم بالإيمان الذي في قلوبهم، ليعملوا بمقتضاه (ذَلِكُمْ) العمل بمقتضى الإيمان (أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أكثر نفعًا و بركةً لكم، وأنْزَه لنفوسكم وأطهرُ لها من الوقوعِ في البغضاءِ والآثامِ، بالمضارةِ والعضل (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما ينفعكم، وما تكون به الألفة وصلاح الأسرةِ، وما يقربُكم إليه (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ما ينفعُكم.
[1]) يونس: 23.
[2]) الموطأ: 1153.
[3]) البخاري:4529.