المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (127)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (127)
(وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)[البقرة:237-239].
(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) لما تقدم ذكر من طلقت قبل الدخول ولم يسمّ لها مهر، بأنه لا شيء لها مِن المهر، وأنّ لها المتعة عوضًا عما فاتها من المهر، أتبع في هذه الآية بقسيم ما تقدم، وهي المطلقة قبل الدخولِ المسمّى لها، وبينت الآية أنّ لها نصفَ الصداق المسمّى (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي: للمذكورات، وهنّ من طلقن قبل الدخول وقد فرضتم لهنّ فريضة، وسميتم لهن صداقًا عند العقد، ودلّ ذلك بالفحوى على أنّه ليس لها متعةٌ؛ لأنها قسيم لمن جُعلت لها المتعة، وهي مَن لم يُفرض لها، والنصف المذكور ثابتٌ لكل مطلقةٍ قبل الدخول لم يُسمّ لها صداق، وهو واجب لها (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) وهن المطلقات، بأن تتنازل المطلقة قبل الدخول عن حقها في نصف المهر، طيبة نفسُها به، كما قال تعالى: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)([1]).
(أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) وهو الولي الذي عقد لها النكاح، ولا يفعل ذلك الولي ويتنازل إلّا بالتشاور معها، وإذنها، وقيل إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوجُ الذي طلقَ، لأنّه الذي كان ملكَ عقدة نكاحها، وعفوه هنا معناه أن يكون كريمًا سمح النفسِ، فيكمل لمطلقته النصف الآخر، بأن يعطيها المسمى كاملا، وتسميته في الآية عفوًا من باب المجانسة والمقابلة بين اللفظين، فقوبل عفو الزوجة في قوله: (إلّا أنْ يعفون) بعفوِ الزوج؛ تحسينًا للفظ، وهو ما يعرف في البديع بالمشاكلة، وإلّا فتكميل الزوج للصداق في الحقيقة زيادة وابتداء إحسان، لا عفو.
(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) خطابٌ عام، ووصية قرآنية شاملة لكل الناس وإخبارٌ؛ أنّ العفو والإحسان صاحبُه أقرب للتقوى، لكن ذلك لا يعني أن التمسك بالحقّ منافٍ للتقوى، وإنما يعني أن العافي أقربُ منه، وأكثرُ أجرًا، كما قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ)([2]) (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) نهي عن الغفلة عن الإحسان، تأكيدًا للأمر بالعفو، تنوّع فيه الخطابُ بأسلوبين؛ من باب الأمر بالشيء والنهي عن ضده، ومعنى النسيان في (وَلَا تَنْسَوُا) الإهمال والتهاون، أي: فلا ينبغِي أن يفوتَكم الفضل، بتهاونِكم وقلة اهتمامكم به، فالله سبحانه وتعالى مطلعٌ يراكُم، ويعلم ما في القلوب، فلا تفرطوا في فعل الخير وتهملوا، ثم تتذرّعوا بالنسيان.
(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) (الـ) في الصلوات للعهد، وهي الصلوات الخمس المعهودة، والمحافظة عليها تكون بإقامتِها، والمداومة عليها في أوقاتها، والمحافظة على آدابها وفضائلها؛ كأدائها في الجماعة، واستكمال سننها، و(الْوُسْطَى) الفُضلى، وخصّت بالذكر مع دخولها في عموم الصلوات؛ لمزيد فضلِها وكمالها، حتى كأنّها نوعٌ آخر، تنزيلًا لتغاير الصفات بالتفاضُل منزلة تغاير الذاتِ، وما من صلاة مِن الصلواتِ الخمسِ إلّا وقيلَ إنها الوسطى، والصحيحُ عند أهل العلم أنها العصر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم يَومَ الْأَحزَابِ: (شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلَأَ اللهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، ثُمَّ صَلَّاهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ)([3])، ولأنها مشهودة، تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار الحفظة (قَانِتِينَ) قائمين للذكر خاشعين، والقنوت طول القيام، وفي الحديث: (أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُولُ الْقُنُوتِ)([4])، وليس معناه دعاء القنوت في الصلاة، بل طول القيام للقراءة (فَإِنْ خِفْتُمْ) أي من العدو في الحرب ونحوه، كخوف سبعٍ ولصّ (فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) فصلوا رجالا، أي ماشين، مِن رجلَ إذا مَشى على رجليه، أو صلّوا راكبين، مِن ركبَ إذا مشى راكبًا، والمعنى: إذا كُنتُم في مواجهة العدوّ وحضرَ وقت الصلاةِ، ولا تقدرون على صلاتها جماعةً مع الإمام، على الهيئة المعتادة، فصلّوا كما يتأَتَّى لكم؛ راكبين أو ماشينَ، تقاتلونَ العدوّ في كلّ أحوالكم، ولا تؤخروا الصلاة عن وقتها بحالٍ، وهذه الآية دليلُ صلاةِ المسايفةِ أو الاصطفافِ أثناء القتال، والكر والفرّ، فإنها تؤدّى بما تيسر، ويسقط معها ما لا يقدر عليه؛ كالقيام لها، والسكون والخشوع فيها، والركوع والسجود، فيصلي الخائف بالإشارة والإيماء برأسه حيثما اتجه، وكيفما قدر، وهذه صلاة الفذ عندما يكون الإنسان في فزع، يلاحقه عدوٌّ أو سبع أو لص، أو يجري به الماء في طوفان، وليست هي صلاة الخوف المعروفة، التي تؤدّى مع الإمام (فَإِذَا أَمِنْتُمْ) وزال الخوف (فَاذْكُرُوا اللهَ) ارجعوا إلى حالكم المعتاد، وصلوا صلاة الآمن، وقوله: (كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) أي: اشكروه شكرًا يكافئُ ويشبه في قدرِهِ ما أمتن به عليكم، مِن تعليم الشريعة وأحكامِها، وتفصيلِ العلوم التي ما كُنتُم لتعلموها لولا أنّ اللهَ علمكم إيّاها.
[1]) النساء: 4.
[2]) الأعراف: 56.
[3]) مسلم: 627.
[4]) مسلم: 1804.