المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (129)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (129)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[البقرة:243-245].
الاستفهام في (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ) للتعجيب والتقرير، والرؤية بمعنى النظر بالقلب والاعتبار والتأمل، ولذا عُدّيت بإلى، ولم يُعدّ الفعل بنفسه، والمخاطَب بالرؤية عموم الناس، أي كلّ مَن يتأتى منه الاعتبار بخبر هؤلاء الذين خرجوا مِن ديارهم ، سواء كان رآهم بالفعل وشاهدهم، أو لم يرَهم وعَلِم خبرَهم، والذين خرجُوا من ديارهم حذرَ الموتِ، قيلَ قومٌ من بني إسرائيل، دعاهم ملكهم إلى الجهاد، ففرُّوا هاربينَ مِن ديارهم، مع كثرة عددهم؛ جُبنًا وخوفًا مِن العدوّ، فأماتهم الله تعالى بضعةَ أيامٍ، ثم أحياهُم ليعتبِروا، وقيل قومٌ هربُوا من الطاعونِ أو الحمَّى، فأماتهم الله ثم أحياهم، والأولُ أقربُ لسياقِ الآيةِ؛ لقوله تعالى فيما بعد: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، والعبرة فيما حدث لهم من العقوبة بالموت؛ الترغيب في الجهادِ، والحرص على الشهادةِ، والحذر من التباطؤِ والقعودِ عند الدعوة إلى القتالِ، ومن الفرارِ عند لقاء العدوّ، والتخويف من ذلكَ، وبيان أنّ الحذرَ لا يغني عن القدر، وأنّه لا مفرَّ من قضاء الله وقدرهِ، ولا ملجأَ منه إلا إليهِ، فإنّهم وقعُوا في الموتِ الذي فرّوا منهُ، فلحقهم الموت، فلم يغنهمُ الفرارُ، وفاتهم موتُ الشهادةِ الذي دُعوا إليه، فالحرص على الموتِ في ميدانِ الجهاد والشرفِ، هو الذي يهبُ الحياة الحقيقية، وقد ذكرَ الله تعالى هذا المعنى في أكثر مِن آيةٍ، قال سبحانه وتعالى: (قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ)([1]) وقال سبحانه: (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ)([2]).
وجملة (وَهُمْ أُلُوفٌ) حالية، وجمع الكثرة (ألوف) يفيدُ أنهم أكثر من عشرةٍ، قيل ثلاثونَ، وقيل سبعونَ ألفًا (حَذَرَ الْمَوْتِ) فهم خرجوا من ديارهم هاربينَ مِن أجلِ الحذر والخوفِ من الموت (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) أمر الله تعالى بموتهم، فماتوا جميعًا على الفور في وقت واحدٍ، دون علةٍ ولا سببٍ ظاهرٍ، ماتوا بأمره سبحانه للشيء: كنْ، فيكونُ، وأسندتِ الإماتةُ إلى الله تهويلًا وتخويفًا؛ لإدخالِ الرهبةِ في مقام الاعتبار، لتكون العبرةُ أبلغَ، ثم أمر بأحيائِهم فأحيُوا (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) بإتاحة الفرصةِ للتوبةِ بعد الذنبِ، فأحياهم ليبينَ فضلهُ عليهم، ليعتبروا، وليعلموا أنّ الأمر كله بيدهِ، فلا يتعلَّقوا بغيره (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) يفوتهم الاعتبارُ، ويتمادون في غفلتهم، فلا ينتفعون بالعبر.
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بعد أن بين أن الفرار من الموت غير مُجدٍ، وأن الأجل يأتي صاحبه وإن فرّ منه، جاء الأمرُ بالقتال في سبيل الله صريحًا، وهو خطاب لهذه الأمة، قال مالك: سبل الله كثيرةٌ، وما من سبيل إلّا يُقاتل عليها أوْ فيها أوْ لها، وأعظمُها دينُ الإسلام، لا خلافَ في هذا.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع قولكم إن قُلتم إنكم تقاتلون في سبيل الله، ويعلم ما إذا كُنتُم صادقين أو كاذبين، كما قال بنو إسرائيل: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فهو عليم بأحوال مَن يلبي نداء الجهاد، ويقوم به، وبمَن يقول ولا يفعلُ، ويقعدُ ويتخلفُ ويتملصُ، ويعدُّ لنفسه المعاذيرَ، حتى لا يقع عليه اللوم.
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا)([3]) الاستفهام في (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) للتحضيضِ على الإنفاق، والاتصاف بما وصفتهم به الآية من القرض الحسن في قوله: (الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا)([4])، والقرضُ الحسن قيل: هو كل عمل من أعمال البر والخير خالصًا، يعمّ الإحسان بالمالِ وغيره، وقيل: هو إنفاقُ المالِ في سبيل الله، في الجهاد وغيره، كما فسر به الإمام مالك سبيل الله فيما تقدم، فيعمّ كل إنفاق في وجوه الخير، وعلى رأسها دون شكّ الجهاد لإعلاء كلمة الله، ووصف القرض بالحسن ليكونَ من مالٍ حلالٍ، خالصًا لله تعالَى (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) الجملة جواب الاستفهام (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ)، وضِعف الشيءِ مثله، وقوله: (أَضْعَافًا كَثيرَةً) أي حالة كون جزائهِ أضعافًا كثيرة، بلا حدٍّ ولا عدٍّ، والله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن خلقهِ، لا يحتاجُ إلى مَن يقرضُه، ولكنه – لواسعِ فضله وعظيم جودهِ وخيرهِ – يُغري عبادَه على المعروف، فيجعل العملَ الصالح الذي يقدمُه العبدُ مِن أنواع البر والخير والإنفاق في الطاعات والمعروفِ، يجعله كالدَّين على الله، المستحق الأداء والجزاء أضعافًا مضاعفة، روي أنه (لمّا نزلت الآيةُ جاء أبو الدحداح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّ اللهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ، قَالَ: أَرِنَا يَدَكَ، قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي، وَحَائِطُهُ فِيهِ سِتُّ مِائَةِ نَخْلَةٍ، فَجَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهَا، وَعِيَالُهَا، فَنَادَى: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، قَالَتْ: لَبَّيْكَ، فَقَالَ: اخْرُجِي فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي)([5]) وفي رواية: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ، قَالَهَا مِرَارًا)([6]).
(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) يُقتر ويضيق على مَن يشاء، ويوسع الرزق ويعطي مَن يشاء، وذلك حتى لا يظن الناسُ أنّ الإنفاق والإقراض الحسنَ يعرضُ صاحبه للفقر، فالفقرُ والغِنى مِن الله وحدهُ، وفي الحديثِ: (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعطِ ممسكًا تلفًا)([7]) (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازي مَن أقرضَ ومَن بخلَ.
[1]) الأحزاب: 16.
[2]) آل عمران: 154.
[3]) مَن اسم استفهام مبتدأ، وذا خبر، والذي صفة، و(يقرض الله) صلة الموصول.
[4]) (ذَا) في (من ذا) اسم إشارة، إلا أن النحاة جعلوه بعد مَن الاستفهامية اسمًا موصولًا مبهمًا، كما في قوله تعالى: (مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) [النحل:30]، فهو يفيدُ هنا مفادَ اسم الموصول المبهم؛ لأن جعله اسمًا موصولًا حقيقةً يؤدّي إلى موصولَين متواليَين بصلة واحدةٍ، ولا فائدة مِن ذلكَ.
[5]) مسند أبي يعلى الموصلي: 4917.
[6]) مسند الإمام أحمد: 12482.
[7]) البخاري: 1442، ومسلم: 157.