طلب فتوى
Uncategorized

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (131)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (131)

 

 

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ  وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)[البقرة:249-250].

 

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ) (فَصَلَ)([1]) ابتعد عن بلده وانقطع عنها متوجهًا لقتال أعدائه، و(طالوت) تقدم إنه أحد ملوك وأنبياء بني إسرائيل (بِالْجُنُودِ) بصحبة الجنود، فالباء للمصاحبة (مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)([2]) ممتحنكم ومختبركم، ليظهر ما علمه منكم من ثبات وصبر، أو ضعف وخور، والنهر قالوا هو نهر الأردن.

(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) شرب منه بنَهم، وكرع فيه حتى ارتوى، فليس من شيعتي وأتباعي، و(مِن) للتبعيض أو للاتصال، أي: متصلًا شربه بالنهر كارعًا فيه، كالاتصال في قوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)([3]) بعضُهم متصل ببعض كالجسم الواحد (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) من لم يذقه فهو مِن الخُلّص من أتباعي وشيعتي (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غرْفَةً) الغَرفة بالفتح المرة، أي: غرفة واحدة، وذُكِرت اليد مع أنّ الغرفة معروفة لا تكون إلا باليد؛ لدفع توهم أن تكون الغرفة بإناء ونحوه، والغُرفة بالضمِّ كالغرفة بالفتح: ملء الكف، وقرئ بهما، والاستثناء في: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غرْفَةً) مؤخر من تقديم، وتقدير الكلام: فمَن شربَ منه فليس مني إلّا مَن اغترف غرفةً بيده واكتفى بذلك فلا حرج عليه، وتقديم (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) عن الاستثناء للاهتمام؛ اهتمامًا بمن لم يشرب من النهر ولم يطعمه، لأنهم أخذوا بالعزيمة([4]).

(فَشَرِبُوا مِنْهُ) أي كرعوا فيه دون استعمال واسطة من إناء ونحوه، كما تكرع الدواب، وكانوا عطاشًا، بعد أن مروا بمفازة شديدة القيظ (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)([5]) أي: قليل منهم من ألزم نفسه بما طلبه طالوت، ولم يشربوا؛ لأنهم – أي هذا القليل – كانوا عازمين على خوض المعركة وطلب الشهادة، ولهم معرفة ودربة على القتال، وأن المقاتل اذا امتلأت بطنه بالماء ارتخت مفاصله، فلا يفلح (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) فلما اجتاز مع طالوت النهرَ من أطاعه ولم يشربوا، وكانوا قلة، قال بعضهم حين رأوا الأعداد الهائلة لجند جالوت في فلسطين: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده (قَالَ) أولو العزم منهم الخلص، وهم القلة من القليل ممن اجتازوا معه النهر، وهم (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ) موقنون بلقائه والشهادة في سبيله، قالوا واثقين بنصر الله: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (كم) اسم استفهام، وهي هنا خبرية تفيد التكثير، و(مِنْ) بيانية، بيَّنت الإبهام في (كم) بأنه فئة، والفئة الجماعة والفرقة، والمعنى: فلنطمئن، فإنه مما يقع كثيرًا وبأعدادٍ لا حصرَ لها؛ أنّ جيشًا قليلا يتغلب ويهزم جيشًا عظيمًا كثيرَ العددِ والعدة (بِإِذْنِ اللهِ) بسبب نصر الله تعالى لهم وتقديره؛ لأن الفئة القليلة كانت عدتها التوكل على الله، والصبر على قتال العدو نصرة لدين الله، والله مع الصابرين بتأييده وتوفقيه.

وقوله: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) من البَراز بالفتح، وهو المتسع من الأرض، ومعناه المواجهة في أرض المعركة، والاصطفاف للقتال، أي لمَّا برزوا واصطفّوا للقتال تضرعوا إلى الله بالدعاء، والتجؤوا إليه، و(قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) وإفراغ الصبر معناه الدعاء بصبر سابغ كامل، فيه تعميم وشمول وإحاطة بهم مِن كلّ جانبٍ، وعندما يغمرهم الصبر مِن كل جانب تثبت الأقدامُ في الميدان، فلا تزل ولا تفر، والدعاء والتضرع مع الأخذ بالأسباب هو السنة في القتال، كان النبي صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدو يتضرع إلى الله ويلحُّ، وكان من دعائه في ذلك: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وَبِكَ أَصُولُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ)([6]) (اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأجعلك في نحورهم)([7])، ودعا يوم بدر حتى سقط رداؤه عن منكبيه، يستنجز وعدَ الله بالنصر، ويقول: (اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي)([8]).

 

 

 

[1]) والفعل فصلَ أصله متعدٍّ، ويكثر حذف مفعوله، فيستعمل لازمًا كما هنا.

[2]) نهَر بفتح الهاء وتسكن تخفيفًا، كالشعر والحجر والبحر، وقرئ بتسكين الهاء.

[3]) التوبة: 67.

[4]) نظيره تقديم (الصَّابِئُونَ) على قوله تعالى: (وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فالصابئون أصله التأخير، والتقدير: فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون، والصابئون كذلك، مبتدأ وخبر، أي: لا خوف عليهم إن آمنوا، مع أنّ كفرهم أشد.

[5]) قليلا منصوب على الاستثناء من كلام موجب، ورفعه على الإتباع لغة لها وجه عند النحاة، وعليها توجه قراءة الرفع، ومن شواهده عندهم قول الشاعر:

وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أخُوه         لَعَمْرُ أبيكَ إلاَّ الفرقدانِ.

[6]) أبو داود: 2632.

[7]) أبو داود: 1537.

[8]) مسلم: 1763.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً

إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق