المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (135)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (135)
(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[البقرة:257-258].
(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الولي من الولاية، ومن معانيها النصرة والمحبة والتأييد، أي: يحب الذين آمنوا وينصرهم، ويخرجهم من ظلمات الكفر والضلال، إلى نور الهداية والإيمان، وذلك إذا بذلوا وسعهم في التطلع للهداية والتعرض لها، والأخذ بأسبابها، وترك العناد (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) والذين كفروا حلفاؤهم وأنصارهم وأعوانهم الشياطين، ومعبوداتهم الأصنام والطواغيت، التي لا تزيد أصحابها إلا غواية وطمسًا على القلوب، ولذا فولايتها تظلم النور المكتسب بالفطرة، وتُخرج من تولاها مِن هذا النورِ الفطري، إلى ظلمات الكفر والشبهاتِ والشهوات (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) هذا وعيدٌ بمصير مَن تولى الطواغيت والشياطينَ مِن الإنس والجنّ، بالخلود في النار، والإشارة إليهم بأولئك التي للبعيد؛ للإيذان بأنهم أحرياء بما أخبر به عنهم، وهو الخلود في النار.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ) هذه الآية في محاجة إبراهيم عليه السلام في ربه، وتصور ما كان يلبس به الكافر في رد الحجة بالبهتان، وهي كالشاهد والدليل على ما تقدم، مِن أن الكافرين في ضلال وعمايات، تخرجهم هم وطواغيتهم من النور إلى الظلمات، وتسلط الشياطين عليهم، فلا يهتدون سبيلا.
والخطاب في (أَلَمْ تَرَ) للنبي صلى الله عليه وسلم، أو عام لغير معين، لكل من يتأتى منه، والاستفهام للتعجب من حالِ الذي (حَاجَّ) وكفرَ، قيل: هو النُّمرود الذي خاصم وفجر، والاسم من فعلِ حاجَّ الحجةُ، وهي الدليل والبرهان على الدعوى، وفعل حاجَّ لا يستعمل إلّا في الخصومة، وغالبًا ما تكون بالباطلِ مقابل الحق، كما هنا، وكما في قوله: (قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ)([1]) (إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ) أي خاصمه في أمرٍ مَا كان يليقُ أن يخاصمه فيه، فالإضافة في قوله: (فِي رَبِّهِ) لتسجيلِ الخطأ على المخاصم الفاجر، بأنه يجادل في الربّ؛ رب إبراهيم وربّ غيره، وما كان يحق له ذلك، والضمير في (ربه) عائد إلى إبراهيم عليه السلام، ويجوز عوده إلى الموصول في قوله: (الَّذِي حَاجَّ)، وقبول إبراهيم المحاجة كان لإقامة الحجة على إثبات التوحيد، وتفرد الله تعالى بالقدرة المطلقة، وخلق المخلوقات، وفي الآية دليل على جواز المجادلة لإقامة الحق وإثبات الدِّين، والمنهي عنه من الجدل في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الجَدَلَ)([2]) هو جدالُ المكابرة، والخصومة بالباطل، كما فعل هذا الملك الضالّ، وموضع العبرة في محاجة إبراهيم عليه السلام، هو تمثيل ما يفعله المشركون في مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم في البعث، بحال محاجة إبراهيم عليه السلام لخصمه، المنكر هو أيضًا للبعث والتوحيد (أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ) على حذف لام التعليل، والتقدير: حاج هذا النمرود نبي الله وخاصمه، لأنّ الله أعطاه الملك، فبدلًا من أن يؤدي شكره لربه، أنكرَ وخاصمه، والغرض من التعليل يجوز أن يكون بمعنى استسهال التبرير لفعله، أي: فالذي سهل له هذا البطر والتكذيب هو إعجابه بنفسه، لما أعطاه الله الملك، على حد قولك: تجرأت لأني تسامحتُ معك، أو هو تعليل حقيقي مقصود منه التهكم، والتعريض بوضع الشيء موضع ضده، أي: حاجَّ في ربه لأجل أنّ الله أعطاه الملك، الذي كان يستوجب عليه الشكر، فوضع موضعه الكفر، كما قال تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)([3])، وصورة المحاجّة هي قوله: (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) قال إبراهيم ذلك طالبًا من الذي كفر الإيمانَ بالخالق، الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وما قاله إبراهيم عليه السلام أمرٌ معروف لدى جميع العقلاءِ، فإنّ الإحياء بمعني خلق الحياةِ، والإماتة بمعني الإفناء، الذي لا يقدر أحدٌ معه على دفع الموت، هو لله القادر على ذلك وحده، ولذا فهو الذي يستحقُّ أن يُعبد، قال الذي كفرَ مشاغبًا وملبسًا: (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ففسر الإحياء والإماتة بمعنًى ساذج سخيف، يمكن لأيّ مجرمٍ رئيس عصابة أن يفعلهُ، بأن أتى – كما قالوا – ببريء فقتله، وبمحكوم عليه بالموت فعفَى عنه، فجعل العفو خلقًا وإحياء، والجناية بقتل البريء قدرةً على الإماتة، فأعرض إبراهيم عليه السلام عن تشغيبه وتلبيسه؛ لأنه لا طائل تحته، وانتقل به إلى مثال آخر محسوس، لا يقدر معه على التمويه والمغالطة، فقال له: (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) فإن كنت قادرًا حقًّا كما زعَمت (فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) لما لم يكن هذا في مقدوره، ولا يستطيع أن ينتحله؛ بُهِت، والبهت والبهتان: التبكيتُ والتحيّر الذي لا يقدر معه على الكلام (وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين منعوا أنفسهم مِن أن يأخذوا بأسبابِ الهداية.
[1]) الأنعام: 80.
[2]) الترمذي: 3562.
[3]) الواقعة: 82.