المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (136)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (136)
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة:259].
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) هذه حجة أخرى على التوحيد، وإخراج أهله من الظلمات إلى النور، معطوفة على التي قبلها في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)، والتقدير: أو رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربّه، ورأيت مثل الذي مر على قريةٍ، والذي مرَّ على القرية رجلٌ من بني إسرائيل، والقرية مأخوذةٌ مِن القرْي، والقرْي كالجمْع وزنًا ومعنًى، سُمّيت بذلك لتجمعِ الناسِ فيها، وهذه القرية لم تسمّ، ولم تأتِ تسميتها بنقل صحيح، فلا طائل من البحث عن اسمها.
(وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) جملة حالية، والخاوية: الفارغة التي لا حياة فيها ولا بنيان، والعروش جمع عرش: السقف الذي يسقف به ما تحته من بنيان أو أعواد، وخواء العروش كناية عن أشد الخراب؛ لأنه يكون بسقوط السقوف وسقوط الحيطان فوقها، فهي قرية خربة متهدمة موحشة، ليس بها أنيس (قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) أنى اسم استفهام([1])، وهو استفهام للاستعظام، والتعجب من إحياء القرية بحسب العادة في تقدير الرجل الذي مرّ بها لشدّة خرابها، أي: فمَن يقدرُ على إحيائها؟ وما الحال الذي تحيا عليه، ويرجع به إليها العمرانُ لو رجع، بعد هذا الخراب؟! هذا أمر مستبعد!
(فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ) أراد الله به خيرًا، فأراه قدرته بالمعاينة والبرهان المحسوس، وليكون عبرة لغيره، فاستلّ منه روحه وهو نائمٌ، وماتَ، ولبث ميتًا مائة عام (ثُمَّ بَعَثَهُ) أحياه الله، وردَّ إليه روحه في بدنه، الذي لم تغيره الموت كل هذه السنين، على خلاف العادة التي عرفها الناس (فقال) له الله تبارك وتعالى، كلّمَهُ يحتمل بدون واسطة، أو بواسطة ملك من ملائكته قال له: (كَمْ لَبِثْتَ) ما المدة التي لبثت فيها نائمًا غائبًا عن الإدراك؟ (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) حسِب الرجل أنّ نومه كان يومًا واحدًا لم يجاوزهُ، ثم استدركَ وقال إنه بالغ في التقدير، فأضرب عن كلامه، وقال: أو بعض يوم، و(أَوْ) إمّا أن تكونَ بمعنى بل التي للإضراب، فيكون جازمًا متحققًا أنه بقيَ بعضَ يومٍ، لا يومًا كاملًا، وإمّا أن تكونَ للشكِّ، إذا لم يتحققْ من ذلك، وبقي مترددًا، قَال اللهُ له: (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ) استمر موتك مائة عام، لا يوما أو بعض يوم، و(مِائَةَ) منصوب على الظرفية؛ لأنه بمعنى المدة (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ) أي تأمل في الطعام والشراب الذي كان معك حين نمتَ وأماتكَ الله (لَمْ يَتَسَنَّهْ) تجده لم يتغير، من السَّنة بمعنى الحول؛ لأنّ مرَّ السنين يغير الأشياء، أي: كأنه طعام يومه، ما مضت عليه السنون([2]).
(وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) (الْعِظَامِ) هي عظام حماره، الذي أماته الله تعالى معه، وبليت عظامه، و(نُنْشِرُهَا) بالراء من أنشر، وهو الإحياء وبعث الأموات، وقرئت (نُنْشِزُهَا) بالزاي، من النشوز بمعنى الارتفاع والعلو، فعله أَنشزَ، أي: أنظر إلى العظام، كيف نركب بعضَها على بعضٍ، ونكسوها لحمًا، فبيّن الله تعالى له حين أحياه هذه المراحل؛ ليقيم له الدليل على البعث، ووجّه نظره إلى حماره الذي مات، وصار عظامًا متفرقةً باليةً، ثم أحياه له، وركِبه وأتى به قومه حينها.
قال الرجل: (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فعبّر عن انبهارهِ بقدرةِ الله، التي لا يعجزها شيءٌ، وقال (أَعْلَمُ) بصيغة المضارع، الدال على أنه وإن كان قد علم من قبل، فإنّ علمه بقدرة الله مستمرٌّ متجددٌ.
[1]) أنَّى الاستفهامية بمعنى كيف، وهي هنا منصوبة على الحال، صاحبها (هَذِهِ)، قُدمت على صاحبها لإنّ الاستفهام له الصدارة، والعامل فيها (يُحْيِي).
[2]) ويصح أن يكون اشتقاق السنة من سنه، لامُ فعله هاءٌ، مجزوم بالسكون، وإن جعل من سنو المعتل بالواو، فجزمه بحذف حرف العلة، وعوضت عنه هاء السكت، وأفرد ضمير الفعل (يتسنه) وهو راجع إلى اثنين الطعام والشراب على إرادة الجنس، فالطعام والشراب كالجنس الواحد، وجملة (لم يتسنه) حالية.