المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (14)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (14).
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:9].
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المرضُ: ما يُخرج الإنسانَ عن الصحةِ والاعتدالِ إلى الضعف والخلل، في البدن أو النفس والعقل، وتنكيرُه للتعظيم والتنويع، فهو مرض شديد متنوّع.
وأعيدَ لفظ المرضِ مرةً أخرى مُنَكّرًا؛ ليفيدَ أنّه نوعٌ آخر؛ لأنّ النكرةَ إذا أُعيدَت نكرةً كانت غيرَ الأولَى، والمرضُ هنَا فسادٌ عظيمٌ، وارِدٌ على قلوبِهم، متنوّعٌ ومُتعدّدٌ، فهو في العقائدِ بالتشكيكِ والمكابرةِ والعنادِ، وفي الأخلاقِ الذميمةِ بالنفاقِ والخداعِ، الذي ازدادُوا به كفرًا على كفرِهم، حيثُ أظهروا النّصحَ والموافقةَ، وأضمرُوا الغدرَ والمخادعةَ، ولا يكونُ ذلك إلّا عن خلقٍ ذميمٍ، وفسادٍ وخبثٍ في الطباع.
وزيادتُه في قوله: (فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا) أنّه صارَ يتوالَد معهم ويُفْرِخ، ويتكاثرُ، ويتمكّنُ منهم مع الأيّامِ بزيادةِ التكاليفِ، وزيادةِ إعراضِهم عنها، حتى صارَ خُلُقًا لهم وطبْعًا، وجُزءًا منهم جُبِلوا عليه؛ لكثرةِ ما تَواردَ عليهِم وألِفُوه، فالخيرُ في النّاسِ عادةٌ، لكنّهم اعتادُوا غيرَه، فتمكّنَ منهم، ومَن شبَّ على شيءٍ شابَ عليه، ولِهذا الإلفِ للفسادِ صارَ حالُهم فيه كصاحبِ الصنعةِ، الذي يتعهّدُها، ويجتهدُ طولَ يومه في تطويرِها، ويضيفُ إليها ما يراهُ يعينُ على ترويجِها.
يضافُ إلى هذَا الحالِ البئيسِ للمنافقين صُعوبةُ التخلّصِ مِن النفاقِ؛ لأن طبيعةَ المنافق إظهارُ مَا يُستحسَنُ وإخفاءُ ما يُستقبَحُ، فلا يظهرُ مِن المنافِقِ للناصحِ والمربّي عيبٌ، حتّى يُعينَه على التخلّصِ منه، فزيادةُ المرضِ في المنافقِ زيادةٌ نوعيّةٌ بتمكّنِ العللِ، وعدديّةٌ بتكاثرِها.
وفي الآية ما يدلّ على أنّ اللهَ تعالى قد يُعاقبُ على الذنبِ بذنبٍ أشدَّ؛ إن لم تدركه توبة عاجلةٌ؛ لأنّ الفاءَ في قوله: (فَزَادَهُم) للسببيةِ، أي: فبسبَبِ مرضِ قُلوبهم بالنفاق زادَهم اللهُ مرضًا آخرَ.
وإسنادُ زيادةِ المرضِ إلى اللهِ تعالى، معناهُ: أنّ الذي أوصلَهم إليه هو تمادِيهم في الإسرافِ على أنفسِهم، وإفراطُهم في غيِّهم، وإعراضُ اللهِ تعالى عنهُم؛ لغضبِه عليهم، وتخلِّي عنايتِه عنهم، وحرمانُهم التوفيق، وتركُهم لأنفُسهم، كما أنّ في إسنادِهِ إلى الله تعالى ما يقطعُ أطماعَهم في ذهابِه؛ كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد)([1]).
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) بعدَ بيانِ فسادِ حالِهم الميؤوسِ منْها في الدّنيا، ذكرَت الآيةُ تتميمًا مُكمّلًا لِما يكونُ عليه حالُهم من عذابٍ في الآخرة، الأليمُ: شديدُ الألمِ، صيغةُ مبالغة من الثلاثي ألِم، قياسه: آلم على فاعل، لشديد الألم، كعليم ورحيم بمعنى عالم وراحم، لكثير الرحمة والعلم، هذا هو القياس، ويجوز أن يكون أليم بمعنى مؤلم من الرباعي، على خلاف القياس([2])، استحقُّوا ذلك العذابَ الوجيعَ الأليمَ بسببِ تكذيبِهم الرسولَ، وما جاءَ به من عندِ ربّه، وبسبب كذبِهم، حينَ قالوا آمنَّا، وما هم بمؤمنين، وقولِهم إنّما نحنُ مصلحُونَ، وتقدّمَ مزيدُ كلامٍ على لفظَي (عَذَاب) و(أَلِيم).
وفي الآيةِ بيانُ قبحِ الكذبِ بخُصوصِه، حيث جُعل سببًا لعذابهم مع كفرِهم، ومعلومٌ أنّه ليسَ ذنبٌ أعظم مِن الكفرِ، لكنْ خصَّ ذكر الكذب استعظامًا لأمرِه، وتحذيرًا منه، والكذبُ كله قبيحٌ، وفي المعاريضِ مندوحةٌ عنه، كما جاءَ في الأثرِ، وتضعيفُ الفعلِ (يُكذّبُونَ) للمبالغةِ، فإن التضعيفَ يفيدُ المبالغةَ، كما في صَدَقَ وصَدَّقَ، ويأتِي للتكثيرِ؛ كَماتَ وموّتَ، وبَرَكَ وبرّك.
والكذبُ ضدُّ الصدقِ، وهو الإخبارُ عن الشيءِ بخلافِ ما هوَ عليهِ، سواء كانَ عمدًا أو خطأً، وإثمُ الكذبِ هو الذي يرتفعُ بالخطأِ، لا حقيقتُهُ.
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) دخلَت إذا على الجملة (قِيلَ) في الماضي، كمَا هي القاعدةُ؛ لتفيدَ أنّ هذا وقعَ بالفعلِ في الماضي، لكن وقوعُه في كلّ زمان دائمٌ ومحقّقٌ؛ لأن هذا القولَ: (لَا تُفسِدُوا فِي الأَرْضِ) مِن بابِ تغييرِ المنكر، وهوَ قائمٌ مع قيامِ الدينِ.
وَالفسادُ: كلّ ما فيهِ جلبُ المؤلمِ للنفس، وحرمانٌ ممّا يُلائمُها، وفسادُهم لم يُقيّد بشيءٍ خاصّ، فهو عامّ في العاداتِ وفي العقائد، في الأخلاقِ والمعاملاتِ، في أمورِ الدينِ والدنيا.
وفي قوله: (إِنّمَا نحْنُ مُصلِحُونَ) صفةٌ أُخرَى ذميمةٌ مِن صفاتِ المنافقين، دأَبَ عليها أهلُ النفاق بنوعيه؛ نفاقِ العقيدةِ نفاقِ أهل الكفر، ونفاقِ العملِ نفاقِ أهلِ الإسلام، فمِن خُلُقِهم جميعًا الإصرارُ والدوامُ على نفاقِهم، حتّى إذا ما قالَ لهم الناصحونَ – خوفًا وشفقةً عليهم – ويلَكم لا تفسدُوا هذا الفسادَ العظيم، الذي لا يخفَى على أحدٍ، قالوا – إمعانًا في المُكابرة، وإفراطًا في التلون – نحنُ مصلِحون!! فلم يكتفُوا في الجوابِ بنفيِ الفسادِ عنْ أنفسِهم، بل قالوا زورًا وبهتانًا مَا نحنُ إلّا مصلِحونَ، وهذا غايةُ البهتانِ والعنادِ، حيث حَصرُوا أنفسَهم في الصلاحِ، حتى كأنّه لا شُغلَ لهم غيرُه، فأتوا بأداةِ الحصرِ (إنّما) في كلامهم، ولهذا جاءَ الردُّ عليهم على أبلغِ وجهٍ تقتضيهِ فصاحةُ الكلامِ؛ افتُتحت الجملةُ بحرفِ (أَلَا)، وهي للتنبيهِ، حتّى لا يَمُرّ أمرُهم على غفلةٍ، ثمّ أداةِ التأكيدِ (إِنّ)، وتعريفِ المسنَد (المُفسِدُون) خبرُ المبتدأ، الذي يفيدُ قصرَ الفسادِ عليهم، وحصرَه فيهم، وتأكيدِ هذا الحصرِ بضميرِ الفصلِ (هم)، فالمعنى أنّ الفسادَ لا يكونُ إلّا فيهم، لا في غيرِهم، وإن زَعموا خِلافَ ذلكَ.
[1] [الزمر:36].
([2]) جاءت ألفاظ من الثلاثي سمعت على غير القياس، أجروها مجرى الرباعي، منها: وجيع من وجِع كما في البيت: تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعٌ. أي: موجع. ومنها: سميع، كما في البيت الآخر: أمِن ريحانةَ الداعي السميعُ * يؤرقني وأصحابي هُجُوعُ، فالسميع في البيت بمعنى المُسمع على وزن الرباعي، فهذه من الألفاظ المسموعة، فهل تطَّرد ويمكن القياس عليها في كل صيغة مبالغة من الثلاثي، فتقول: أليم بمعنى مؤلم مثلا، ويصير الاستثناء في الألفاظ المسموعة هو القاعدة، أو تبقى القاعدة كما هي على وزن الثلاثي فاعل، ويبقى السماع هو الاستثناء؟ المحل موضع تأمل.
ويصح في أليم على فعيل أن يكون بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، ويكون من المجاز العقلي، أي: مألوم صاحبه، كقولهم: جَد جِدُّه، وشِعرٌ شاعر؛ ليفيد المبالغة في ألم العذاب، فكأن العذاب لشدته يؤلم نفسَه.