طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (141)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

 الحلقة (141)

 

 

(وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[البقرة:270-271].

 

 

(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ)([1]) أي: كلّ إنفاق أنفقتموه، وكل نذر نذرتموه، أيًّا كان نوعُه وكانت صورته؛ المشروع منه وغير المشروع، قليلًا أو كثيرًا، خالصًا أو مشوبًا برياء، في سبيل الله أو في معصية، كل ما أنفقتموه من ذلك (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) يعلم مقداره، ويعلم طاعتكم فيه وعصيانكم، وهداه وضلاله، فيجازي عليه أصحابه بما يستحقون، وكون الله يعلمُه لا شك فيه، ولا يحتاج إلى تأكيد، فهو إخبارٌ مستعملٌ في لازمه، وهو التخويف من الانحراف بالنذر وبالإنفاق إلى غير المشروع، بصرف المال في غير وجهه (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) ليس للمتجاوزين الحدّ في الإنفاق وفي النذر أو في غيرهما مَن يحمونهم، ويدفعون عنهم العذاب، فإن قيل: نفي الأنصار بصورة الجمع لا يستوجب نفي الناصر الواحد لهم، قيل: جاء جمعا لمقابلته بالجمع (الظالمين)، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادًا، فيؤول الأمر إلى أنه لا نصرة لظالم البتة، والنذر إلزام النفس بشيء من القرب والطاعات، مالية أو بدنية، كأن يقول الناذر: لله عليَّ أن أفعل كذا، وهو عبادة لا تكون إلا خالصة لله، لا يشرك فيها غيره، وهو من أعظم القربات، وقد أثنى الله على الموفين بالنذر، فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا)([2])، والنذر يتنوع إلى: مطلق، وهو أصدق في الطاعة، ومقيد، وهو نذر اللجاج، المعلق على حصول أمر، من نجاح أو شفاء مرض ونحوه، وهو الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ)([3])، والنذر المشروع لا يكون إلا بعمل طاعة، فلا نذر فيما ليس بقربة، ولا نذر في معصية من باب أولى.

وكان النذر معروفًا فيمن كان قبلنا من الأمم، قال الله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا)([4])، وكان معروفًا أيضًا بين الجاهلية، فقد نذر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إن رُزق بعشر من الأبناء، أن يذبح العاشر، فكان العاشر عبد الله، وفي حديث ابنِ عُمَرَ عَن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ)([5]).

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) (تُبْدُوا) تظهروا وتعلنوا، و(الصَّدَقَات) لفظ عام، يشمل كل الصدقات؛ الزكاة وصدقة التطوع، فـ(أل) فيه للجنس، وقد مدحت الآية إظهار الصدقة بقوله: (فَنِعِمَّا هي)، ومدحت إخفاءها بقوله: (فَهوَ خيرٌ لَكُمْ) فكلاهما – إخفاؤها وإعلانها – مُرضٍ لله تعالى([6]).

(وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: وإن تؤتُوا الصدقة الفقراءَ مع إخفائها، فهو خيرٌ لكم، وذكر الإيتاء للفقراء في جانب الإخفاء خاصة، مع أنها لا تعطى إلا لهم في الحالتين؛ أخفيت أو أظهرت، للإيماء إلى أن الفقير معنيٌّ أيضًا بوصف الإخفاء، بالستر عليه، ويدخل في ذلك الحفاظ على ماء وجهه، وعدم إشعاره بألم المذلة، وهو يأخذ الصدقة، وفي قوله: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) تنصيصٌ على أن الخيرية في الأصل مرتبطة بالإخفاء، ومدح الإظهار استثناء، يكون إذا دعت إليه حاجة، ومن أهل العلم مَن فصّل؛ فجعل الإظهار في الزكاة أفضل، والإخفاء في التطوع أفضل، وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولعل الأوجه في هذا مراعاة الحال، فيزداد إظهارها مدحًا وصاحبه أجرًا إن كان يرجى من الإظهار تحفيز الآخرين، وبعث الهمم للبذل، وتحريك الإيمان في القلوب نحو الإنفاق، كما كان مِن الرجل الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، يطلبُ التصدق على القوم الذين قدِموا من اليمن، مُجْتَابِي النِّمار، فخرج الرجل ورجع من بيته بصرةٍ من المال، مالت بها كفّهُ أو تكادُ، فتهللَ وجه النبي صلى الله عليه وسلم بشرًا بصنيعه، ثم تتابع القوم حين رأوا ذلك الرجل، فقال حينها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)([7])، فإظهار الصدقة في مثل هذا الحال – دون شك – هو خير مِن إخفائها، ما سلمتِ الصدور مِن الرياء، ويكون الإخفاء أفضل في عموم الأحوال غير ذلك (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) المعنى في  قراءة الرفع (نكفرُ) على الاستئناف، أي: فنحن نكفر لكم من سيئاتكم، وعليه؛ فالتكفير يعم الحالتين، إظهار الصدقات وإخفاؤها([8]) (وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) عليم بأعمالكم أسررتم أم أعلنتم، والجزاء يكون على قدر ما علمه مِن الإخلاص.

 

[1]) ما أنفقتم (ما) شرطية تفيد العموم، و(مِنْ) في (مِن نفقَةٍ) و(مِن نذرٍ) بيانية، بدخول كلّ منهما على النكرة في سياق الشرط، أفادتَا تأكيد العموم المستفاد من الشرط تأكيدًا شاملا، لا يقبل التخصيص.

[2]) الإنسان: 7.

[3]) البخاري: 6314، مسلم: 1639.

[4]) آل عمران: 35.

[5]) البخاري: 1938.

[6]) (نِعمَّا) لفظ مركب مِن نِعْم وما، أدغمتا معًا، والتقدير: فنعمَ شيئًا إبداؤها، فحذف المضاف (إبداء)، وأقيم المضاف إليه (ها) الضمير مقامه، وهو المخصوص بالمدح، وكان متصلا فانفصل، وصار فنِعمّا هي، وتقدم الكلام على الفعل نِعْم.

[7]) مسلم: 6897.

[8]) وعلى قراءة الجزم تكون نكفرْ عطفًا على محل الجواب وهو: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وعليه يكونُ التكفير خاصًّا بالإخفاء.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق