طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (146)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.

الحلقة (146)

 

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة:282].

 

(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) أصل الشهادة من المشاهدة والحضور في المكان، وتطلق على حضور خاصّ، لإخبارٍ بإثبات أمر أو نفيه عند الخصومة، أي: اطلبوا لإثبات الحقوق شهادة رجلين من رجالكم، فالسين والتاء في (وَاسْتَشْهِدُوا) للطلب، واشترطت الآية في الشهادةِ العددَ، وأن يكون الشاهدُ رجلا، وهو الذكر البالغ، وفي إضافته إلى من خوطبوا بالإيمان في صدر الآية بقوله: (مِنْ رِجَالِكُمْ) ما يدل على اشتراط أن يكون الشاهد مسلمًا (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ) فإن لم يكن الشاهدان رجلين (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ) جواب الشرط مبتدأٌ خبرُه محذوف، تقديره: فرجلٌ وامرأتانِ يشهدان ،أي: إن لم يشهدَا حال كونهما رجلين، فرجلٌ وامرأتان أيضًا يشهدان، فهما – أي المرأتان – تقومان مقام الرجل الآخر، فالمطلوب هذا أو هذا، لا أنّ شهادة المرأتين لا تقبل إلا إذا فُقد الرجلان، وهذه الشهادة خاصة بالأموال، لا تقبل في القصاص والحدود عند جمهور أهل العلم (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) أي من الشهود العدول، فالذي تُرضى شهادته هو العدلُ لا المجروحُ، وهذا شرطٌ آخر في الشهود، يضاف إلى ما تقدم مِن اشتراط الإيمان والعدد (أَنْ تَضِلَّ) تنسى أو تتحير (إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) جملة (أَنْ تَضِلَّ) تعليل لجعل المرأتين في الشهادة كالرجل، حذفت لام التعليل فيه مع (أنْ) كما هو الكثير والغالب، أي جعلتِ الشهادة للمرأتين كالرجل؛ لأجْل أنّه إن نسيت إحداهما الشهادة أو تحيرت فيها ولم تذكرها، ذكّرتها الأخرى، فيحصل للتي نسيت وضلّت التذكير مِن التي لم تَنس (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) بعد أن أُمر المتعاقدان بطلب الشهادة في قوله: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) نهي الشهود عن الامتناع من تحمل الشهادة إذا دُعوا إليها، وسمُّوا شهداء من حين أن دُعوا قبل أن يَشهدُوا؛ تنزيلًا لما يُتوقع ويستشرف منزلةَ الواقع، وحذف معمول (دُعُوا) ليفيد التعميم فيما دُعوا إليه، ليشملَ التحملَ والأداء (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي ما تعاقدتم عليه من الديون (صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) مهما كثرت التفصيلات والشروط بداخلِهِ، لا تضجروا ولا تملوا من إثباتِها وضبطِها إلى آجالها، صغيرة القدر كانت أو كبيرة، وكذلك مهما كثرت عقودُ المداينات والحقوق، لا تكسلوا ولا تتوانوا عن كتابتها، والمقام في قوله: (صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا) مقام إطناب لتنصيص على العموم، الشامل للنهي عن كل صورِ السآمة، والتأكيد عليه، وإلّا فالنهي عن السآمة من كتابة الصغير، تقتضي بالأولى النهي عن السآمة مِن كتابة الكبير، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) (ذَلِكُمْ) الإشارة إلى الكتابة المفهومة من قوله: أن تكتبوه (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) الكتابة تؤدّي إلى القسط والعدل، الذي يرضي الله تعالى، ويقطع الطريق عن المخاصم (وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ) أثبت لشهادة الشهود وأعون على قيامها، فلا يصيبها تحريف (وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا) وأبعد لكم عن الشكّ والارتيابِ فيما تعاقدتم عليه من الديون والحقوق، في مقاديرها وآجالها (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً) عاجلة ناجزة، يتم فيها التقابض يدًا بيدٍ، دون تأجيل ولا دينٍ (تُدِيرُونَهَا) تتداولونها وتتعاطونها فيما بينكم([1])، والمعنى: لكن التجارة الحاضرة التي يتم فيها التقابض يدًا بيدٍ، لا إثم ولا جناح في عدم كتابتها والإشهاد عليها، لبعدها عن النسيان المفضي للمنازعة (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) بدأت آية الدَّين بطلب الكتابة والإشهاد على المداينة، واستثنت التجارة المقبوضة الحاضرة المتداولة، فلا حرج في ترك كتابتها والإشهاد عليها، ثم أمرت في قوله: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) بالإشهاد على البيع مطلقا، في تجارة أو في مملوك للقنية، بِيع مقبوضَ العوضينِ أو بدَين، وبذلك يعلم أنه لا تكرارَ في طلب الإشهاد، والأمر في طلب الشهادة على البيع كسابقه في قوله: (إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)، للندب والإرشاد عند جمهور أهل العلم (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) نهي عن الإضرار الواقع من أي من الطرفين المتعاقد والكاتب؛ لأن صيغة يضار تحتمل البناء للمفعول، أي لا يضر المتعاقد الكاتب، فتفيد نهي المتعاقد عن أن يضر بالكاتب أو الشاهد، وذلك كإعجاله عن الكتابة ليأتيها كارهًا متبرمًا، فلا يؤديها على وجهها، أو بمنعه من الجعل عليها، أو لا يعطى الشاهدُ أجرةَ مجيئه للشهادة، وتحتمل صيغة يضار البناء للفاعل، أي لا يضر الكاتب المتعاقد، فتفيد نهي الكاتب والشاهد أن يضر بالمتعاقد، كأن يمتنع عن الكتابة أو الشهادة إذا دعي، أو يحرف ويغير فيها ولا ينصح، وهذا من الإيجاز البليغ والإعجاز في ألفاظ القرآن (وَإِنْ تَفْعَلُوا) الإضرار بنوعيه، من أي من الجانبين (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) إثم وظلم محذر منه، كما قال تعالى: (بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ)([2]) (وَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب نواهيه وفعل أوامره (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أحكامه التي مرَّ بعضُها، وفي عطف الامتنان بتعليم الأحكام على التقوى، الإيماءُ إلى أن التقوى من أسباب فتوحات الله على عبده في علوم الشريعة (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه من اتقى، ولا من عصى، ولا من أمْلى فوفى، ولا مَن كتب أو شهد فعدل، ولا من بخس الحق أهلَه وأضرَّ وظلم، وتكرير اسم الجلالة ثلاث مرات متتالية بالاسم الظاهر، واقع موقعه في فصيح الكلام، من جهة أنه في سياق التفخيم، وفي ثلاث جمل، كل جملة مستقلة بذاتها، لا في جملة واحدة يحسن فيها عند التكرار إعادة الضمير، ومقصودٌ بتكرير الاسم فيها تسجيل انتساب الفعل إلى الاسم؛ لغرض التنويه والتفخيم، ومنه في القرآن أيضًا قوله تعالى: (وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)([3])، (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ)([4])، (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)([5])([6]).

[1]) جملة (تُدِيرُونَهَا) خبر تكون، أو صفة ثانية لتجارة على أنّ كان تامة، والاستثناء في (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً) منقطع؛ لأن التجارة الحاضرة ليست من الدَّين.

[2]) الحجرات: 11.

[3]) الإسراء: 105.

[4]) الإخلاص: 1، 2.

[5]) آل عمران: 78.

[6]) ومنه قول القائل: لقـــاءَ امْرِىء ٍ في الله يَرْضَى ويعْبَدُ            بِجَهْلٍ كجهلِ السيفِ والسيفُ مُنْتَضى

وحِلْمٍ كحِلم السيفِ والسيفُ مُغْمَدُ            وليسَ بِجَهْـــــلِ الأغبياءِ ذوِي العَمَى

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق