المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (150)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (150)
سورة آل عمران
(الَمِّ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ)[آل عمران:1-4].
هذه السورة سمّاها النبي صلى الله عليه وسلم (آل عمران)، فقد صح عنه: (اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا)([1]).
وعمران الذي سميت به السورة – لذكرِهِ فيها – هو أبُو مريمَ، أمِّ نبيِّ الله عيسى عليه السلامُ، وآلُ عمران المذكورون في السورةِ هم مريمُ ابنتُه، وابنُها عيسَى، وزوجُ خالتِها زكرياء الذي كفلَها، كما قال تعالى: (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّاء)([2])، فقد ماتَ عمرانُ ومريمُ في بطنِ أمّها.
وآل عمران سورةٌ مدنيةٌ، نزلتْ بعد البقرةِ، والظاهرُ أنّ جزءًا منها نزلَ بعدَ غزوةِ أُحد؛ لأنّ أهلَ التفسيرِ يتفقونَ على أنّ قول اللهِ تعالَى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ)([3]) يشيرُ إلى قتالِ أُحد، وذكروا أنّها السورةُ الثامنةُ والأربعونَ في ترتيبِ النزول، والسورة قد يبتدئُ نزولُها، أو ينزلُ معظمُها في وقتٍ، بحيثُ ينسبُ نزولُها إلى ذلك الوقت، وتكون منها آيات أخرى يتأخرُ نزولُها كثيرًا عن ذلك الوقتِ، كما في سورةِ البقرة مثلا؛ فإنهم يقولونَ هي أول سورةٍ نزلت بالمدينة، مع أن بعضَ الآيات في آخرِها، كآياتِ الرِّبا، وكقوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ)([4]) كانت من أواخرِ القرآنِ نزولًا، إنْ لم تكنِ الأخيرةَ على الإطلاقِ.
وسبب نزول سورة آل عمرانَ قدومُ وفدِ نجرانَ على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا مِن نصارى جزيرةِ العرب، ومِن أشدّ أهلِ الكتاب تمسكًا بدينهم، قدمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية، يترأسُهم مِن رؤَسائهم العاقبُ والسيدُ، وحاجَّهم النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلامِ فحجّهم، ولكنّهم أنِفُوا الدخولَ في الإسلامِ، فطلبَ منهم المباهلةَ، الواردة في قوله تعالى: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)([5])، ومعنى المباهَلة أن يخرجَ الفريقانِ المتحاجّانِ إلى فضاءٍ يقفونَ فيه، ويدْعونَ باللعنةِ والهلاكِ على الكاذبِ منهما، وذلك غايةُ التجردِ لمعرفةِ الحقّ، والإذعانِ له، والتمسكِ به، وغايةُ الوثوقِ بالنفسِ ممن طلبَها بأنّ ما عليهِ هو الحقّ.
ولذا قبِل النصارى بادئَ الأمرِ المباهلةَ، ثم خافُوا ونكصُوا؛ لأنه لم يكن لهم يقينٌ أنهم على حقّ.
(الَمِّ) تقدم الكلام على معنى الحروف التي بدأت بها السور، في أول سورة البقرة.
(الَلهُ لَا إلهَ إِلَّا هُوِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) الحيُّ المتصفُ بصفةِ الحياةِ، والقيّوم القائمُ بأمرهِ، المستغني بنفسهِ، الذي لا يفتقرُ إلى غيرِهِ، ويفتقرُ إليهِ غيرُهُ([6]).
وكلمة التوحيدِ (لَا إلهَ إِلَّا هُوِ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) تقدم الكلامُ عليها في آيةِ الكرسي في البقرة، وذكرت هنا للردِّ على المشركينَ الذين يؤَلِّهونَ الأصنامَ، وما هي بالأحياءِ، وللردِّ على أهل الكتابِ ممن يؤلِّهُون عيسى عليه السلام، وما هو بالقيّوم؛ لا بالقائم على نفسهِ المستغني عن غيرهِ، ولا بالقائم على غيرهِ.
وتضعيفُ الفعلِ (نَزَّل) يفيدُ تأكيدَ وتقويةَ معنى إنزالِ القرآنِ من عندِ الله، وذلكَ لإبطالِ قولهم: (يُعلِّمُهُ بَشَرٌ)([7])، وقولهم كاهن وأساطير الأولين، ونحو ذلك، و(الْكِتَاب) هو القرآن، و(بِالْحَقِّ) أي: أنزَلَهُ يصاحبُهُ الحقّ ويشتمل عليه، والحقّ: الصدقُ في أخباره، والعدلُ في أحكامه، وما يحمله مِن الحجة المحققة بأنه من عند الله (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) نزلَهُ شاهدًا بصدقِ ما قبله مِن الكتبِ التي تقدمتهُ، فما بينَ يدي الشيء هوَ ما سبَقهُ وتقدّمهُ.
(وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ) بعد الشهادة الإجمالية بصدق كل الكتبِ المنزلة على الرسلِ قبلَ القرآنِ، خصَّ بالذكرِ كتابينِ للتنويهِ بهما، وهما التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى عليهما السلام، وذلكَ لكثرةِ أتباعهِما مِن الأُمم([8]) (مِنْ قَبْلُ)([9]) أي: هداية التوراة والإنجيل للناسِ كانت قبلَ زمان نزول القرآن، والناس هم الذين أنزل عليهم هذان الكتابان مِن اتباعِ موسى وعيسى، فأل في الناس للعهد، وذكر هذا القيد (مِنْ قَبْلُ) حتى لا يظن أنّ هدايتهُما مستمرةٌ بعد القرآن، ولا يردُ عليه أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يردْ ناسخٌ؛ لأن ذلك خاصٌّ بما حكاه القرآنُ من شرعهم، لا فيما وُجد عندهم ولم يذكره القرآن.
(وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ) الفرقان من أسماء القرآن، كما قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)([10])، فهو اسمٌ للقرآن خاصة، أو اسمٌ لكل الكتب التي بها وصفُ التفريقِ بين الحقِّ والباطلِ([11])، ومعنى التفريق بين الحق والباطل: الإيضاحُ الكامل بما يزيلُ الشُّبه، ويرفعُ اللَّبْس، وذلك هو الهدى الذي ليس معه حيرةٌ.
[1]) مسلم:252.
[2]) آل عمران 37.
[3]) آل عمران 121.
[4]) البقرة 281.
[5]) آل عمران 61.
[6]) اسم الجلالةِ (الله) مبتدأ، والحيّ القيومُ وصفانِ، و(لَا إلهَ إِلَّا هُو) كلمة التوحيدِ، جملة اعتراضيةٌ أو حاليةٌ، وجملة (نزّل عليك الكتاب بالحقِّ) خبرُ المبتدأ، والتضعيفُ في الفعل (نزَّلَ) للتعدية، والباء في (بالحقِّ) للملابسة.
[7]) سورة النحل:103.
[8]) التوراة اسمٌ معربٌ، دخلتْ عليه الألفُ واللامُ، كما هو الشأنُ في الأسماءِ المعربة، فصارَ علمًا بالغلبةِ على الكتبِ والألواحِ المنزلةِ على موسى عليه السلام، والثاني الإنجيلُ، كذلك هو معربٌ، صارَ علمًا على ما جمعَ بعد عيسى عليه السلام مِن الوحيِ المنزلِ عليه.
ومن أهل اللغة من يفرق بين (نَزَّلَّ) و(أنزل)، فيجعل المضعف لما ينزلُ منجمًا، والمهموز لما ينزلُ جملةً واحدةً، لكن أَوردُوا على هذه التفرقةِ أمرينِ؛ الأولُ قولُه تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) فذكر مع التنزيل أنه يكونُ جملةً واحدةً، والثاني ما يلزمُ عليه من ضرورة إنزالِ التوراة والإنجيل جملةً واحدةً، وهذا يحتاجُ إلى إثباتٍ، إذ لم يردْ أنّ شيئًا مِن الكتبِ التي أنزلها اللهُ تعالى على رسلهِ نزلتْ جملة واحدة. وتقدم الكلام عن الفرق بين نزّل وأنزل في الحلقة (22) من المنتخب، في تفسير الآية 23 من سورة البقرة: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا…).
[9]) قُطعت قبلُ عن الإضافةِ، وإذا قُطعت بُنيتْ على الضمِّ، كما هنا، وجملة (مِن قَبلُ) في موضع الحالِ.
[10]) الفرقان 1.
[11]) الفرقان: مصدرٌ يدل على القوة والتمكن مِن المعنى الذي دلَّ عليه، كالغفرانِ والبهتانِ والهجرانِ.