المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (159)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (159)
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آل عمران:26-27].
الخطاب في (قُلِ اللَّهُمَّ) للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتّى منه([1])، والمالك: المتصرف فيما تحت سلطانه من مِلك بإرادته، و(الْمُلْكِ) بالضم: التصرف فيما تحت سلطان المالك من عظائم الأمور، ومُلكُ التصرف في العظائم يستلزم ملكَ التصرف فيما دونها، ولأن الله تبارك وتعالى وحده يملك التصرف في عظائم الأمور، التي لا يقدر عليها غيره، كالإحياء والإماتة، وتعاقب الليل والنهار؛ جاء كل وصف لله بالملك في القرآن بضمّ الميم، قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)([2])، والمِلْك بالكسر يعمّ كل تصرف فيما تحت سلطان المالك، ولا يختصّ بعظائم الأمور، فالملك كله لله، صغيره وكبيره، ويعطي بعض ملكه مَن يشاء من عباده، كما أنه ينزع بعض ملكه ممن يشاءُ من عباده([3])، وفي الآية تعريض بأهل الكتاب، الذين تقدم بيان كفرهم، وأنهم ما أعرضُوا وتولوا إلا حسدًا؛ لتحوُّلِ النبوة والملك عنهم (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) في الدنيا بالنصر والتأييد والغلبة، وفي الآخرة بدخول الجنة والفوز برضوان الله (وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) في الدنيا بالهزيمة والخذلان، وفي الآخرة بالعذابِ المهين (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كلّ خير هو من عندك، تملكهُ وحدك، ولا يملكه غيرك، وذكر الخير دون الشر من تعليم مراعاة الأدب في الخطابِ، وإلا فالله جل جلاله مالك الخير والشر، وخالق كلّ شيءٍ ومالكه؛ ولذا ختمت الآية (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يخرج عن قدرته شيء.
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) هذا من دلائلِ قدرته، وصورِ تفرد ملكه، و(تُولِجُ) من الولوج، أصله دخول شيءٍ في شيء، وهو مستعمل هنا في تعاقبِ الليل والنهار، ودخول الليل في النهار، بمعنى زيادة الليل وأخذه من النهار، فيتناقص النهار إلى أمدٍ مقدرٍ محدود، ثم يحدثُ العكس، فيدخل النهار في الليل، فيتناقص الليل، وهكذا دواليك، بمقادير وفي أوقاتٍ محددة منضبطةٍ، على مدى العصور والدهور، ويمرّان بوقتٍ يستويان فيه، ثم يأخذ أحدهما من الآخرِ، وكلّ ذلك مضبوط لا يتخلفُ، وهو مظهرٌ من مظاهرِ تصرفه في ملكه.
(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) إخراج الحي من الميت كخلق الإنسان من ترابٍ، ومن ماءٍ مهين، والحيوان من البيضة، وإخراج الميت من الحي كإخراج البيضة من الحيوان (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) تذييل يؤكد على أن الأمر كله يجري وفق مشيئته، والرزق: كل ما ينتفع به من طعام وغيره، وقد تقدم في البقرة في قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)([4]).
[1]) لفظ الجلالة (اللهم) أصله يا الله، وقد اختص اسم الله في الدعاء بحذف ياء النداء، ولحوق الميم في آخره عوضًا عنها، ولذا لا يجمع بينهما، إذ لا يجمع بين العوض والمعوض، فلا يقال: يا اللهم، وأما قول القائل:
إنّي إذا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا أقولُ: ياللهم يا اللَّهُمَّا
فهو شاذٌّ عند النحاة، وقوله: (مَالِكَ الْمُلْكِ) يصح أن يكون منادى على حذف حرف النداء، ويصح أن يكون صفة لاسم الجلالة، ويرى سيبويه أن (مالكَ الملك) منادى، ويمتنع أن يكون صفة لاسم الجلالة؛ لأن وجود الميم في (اللهم) يجعله أشبه بأسماء الأصوات، وأسماء الأصوات لا توصف، وجوز غيره من النحاة إن يكون صفة، كما صح وصف ما أشبه أسماء الأصوات من نحو سيبويه وعمرويه.
[2]) الملك: 1.
[3]) فالملك تكرر ثلاث مرات، و(الْ) في الأولى منها (مالك الْمُلْكِ) للجنس المستغرق لكل ملك، وفي الثانية والثالثة (تُؤْتِي الْمُلْكَ) و(وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ) للجنس دون استغراق؛ لأنه لا أحدَ يعطَى الملك كله، ولا ينزع الملك كله، وإنما يعطى نوعًا منه، وينزع كذلك نوعًا منه.
[4]) البقرة:3.