المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (163)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (163)
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَٰلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)[آل عمران:38-41].
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ)([1]) أي: في ذلك المكان، وعلى التوّ والحين، ما إنْ شاهدَ زكرياءُ الكرامة وخرق العادة لمريم، حتى دعا ربه بقوله: إِنَّكَ سَمِيعُ مجيبُ الدعاء، فاغتنم فرصة الموضع الذي رأى فيه البركة وتكريم الله لمريم، بما شاهده عندها من خوارق العادة، فحفزه ما عاين أن يتذلل لربه، ويطلب منه أمرًا هو أيضًا مِن الخوارق، كان يتحسر على فواته، فامرأته كانت عجوزًا عاقرًا، ولم يرزقِ الولد، وقد بلغ مِن الكبر عتيًّا، فقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) سأل الذرية الطيبة؛ لأنها من أحسن وأفضل ما يُعطاه المرءُ، فإنها في الدنيا من زينتها المشروعة التي تتم بها السعادة والبهجة، وفي الآخرة من الآثار الصالحة التي تُكتبُ بعد الموت.
(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)([2]) أي: فكانت الاستجابة من الله لدعائه سريعةً وحاضرةً عقب الدعاء، دون تأخير، وذلك بأن نادته جماعة من الملائكة، أو ناداه جبريل عليه السلام، حالة كونه قائمًا في محراب مريمَ يصلي، قالت له الملائكة في ندائها: (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ) بشره الله عن طريق ملائكته، في وقت دعائه، وهو يصلي في المحرابِ؛ بغلام يولد له على الكبر، اسمه يحيى، ومن صفاته وخلاله الكريمة أنه يكون (مُصَدِّقًا) مبادرًا للتصديق؛ بكل ما يعلم أنه من عند ربه، دون ترددٍ، مهما كان الذي يأتيه من ربه مِن خوارق العادات، فهو مصدقٌ بقدرة الله المطلقة، وبكلمته للشيءِ كنْ فيكونُ، ومِن ذلك تصديقُهُ بعيسى، وأن الله خلقهُ بكَلمَةٍ منه: كنْ فكانَ، ومِن صفاتِ يحيى عليه السلام أنه يكونُ سَيِّدًا، والسيّدُ مِن السؤددِ والرفعةِ والإجلالِ، فالسيدُ هو الذي يتفوقُ في قومه؛ في الخصال الشريفةِ، والخلالِ الحميدةِ.
ولا يزالُ الناسُ يسوِّدون عليهم مَن يتمتعُ بخصال يرتفعُ بها على غيرهِ، مثل رجاحةِ العقلِ، وجودةِ النظرِ، وصوابِ القول، ومَن يراعِي شؤونهم، ويحرصُ على ما ينفعُهم، ويسعُهم حِلمًا وجودًا وكرمًا، فإذا انضم إلى ذلك صون نفسه عن معاصي الله، ورعاية المصالح الدينية، وما ينفع في العاقبة، فهي السيادة الشرعية، وكان يحيى عليه السلام متحصلًا على ذلك، ومما حقق هذه السيادة له، ما كان عليه من المبالغة في حبس النفس عن الشهوات والملاهي، وما أخبر الله تعالى به عنه بقوله: (وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا)([3])، والمتقدم في السؤدد على الإطلاق لَسيدّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صح عنه: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)([4])، وقال عن سبطه الحسن: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ)([5])، وقد كان كذلك، فقد ترك الخلافة من أجل جمعِ كلمة المسلمين، وحفظِ دمائهم، ولا يفعلُ ذلك إلا سيدٌ، وجاء عن عبد الله بن عمر أنه قال: “ما رأيت أحدًا أسْودَ من معاويةَ بن أبي سفيان، فقيل له: وأبو بكر وعمر؟ قال: هما خيرٌ من معاوية، ومعاوية أسودُ منهما”([6])، قال ابن عطية: “أشار إلى أن أبا بكر وعمر كانا من الاستصلاح وإقامة الحقوق بمنزلتهما فيها خيرًا من معاوية، مع تتبع الجادة، وقلة المبالاة برضا الناس، وهو ما ينخرم فيه كثير من خصال السؤدد”([7])، فمعاوية قد برز في خصال السؤدد، التي هي الاعتمال في إرضاء الناس على أشرف الوجوه، ولم يواقع محذورًا.
وكان يحيى (حَصُورًا)([8]) الحصور مَن لم تُخلق فيه الشهوة للنساء، فلا يأتي النساء خِلقة، ولعل الحكمة في ذلك أن الله استجاب لزكرياء دعاءه، وأمضى ما أراده أزلًا بانقطاع عقبه، ولينزّهه عما يُرمى به أهلُ التعبد مِن التعلق بالشهواتِ مع إظهار الزهد (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)([9]) أي ونبيئًا ذا نِسبة ونشأةٍ من الصالحين، أو معدودًا منهم.
(قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ) أنّى للاستفهام بمعنى كيف؟ ومعناه الاستعظام والتعجب، أي: كيف يكون هذا الأمر العجيب الخارق للعادة؛ وهو أن يلد الشيخ والعجوز، وقد أدركهما الكبر والمرأة عاقر لا تلد أصلا([10])،فالعاقر من العَقْر بمعنى القطع، سميت به المرأة التي لا تلد؛ لأنها منقطعة الولد، والمعنى: كيف يتحصل على الولد مَن هذه حاله مِن الكبر، وحال امرأته العجوز العاقر؟ اليائسةِ من الولد، وليس التعجب من ذلك تشكيكًا في قدرة الله تعالى، ولكن للتعبير عن سروره، ولتتم فرحته، ويطمئن قلبه، كما قال إبراهيم عليه السلام عندما قيل له: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)([11])، فسؤال زكرياء من باب التشوق إلى معرفة تفاصيلِ هذا الخبر السّار (قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) أي: كهذا الفعل العجيبِ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء، على الدوامِ والاستمرار، ويتصرف في ملكه كما يريد (قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً) هذا من تمام دعاء زكرياء، وهو يعبر على المزيد من تشوقه لتفصيل ما تحصّل عليه مِن بشارة، والإطناب في مثله مما يتعلقُ به القلب محمودٌ؛ لذا طلب أن يعطيه ربه علامةً يعرفُ بها أن امرأته قد حملتْ، فأجابه (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا) علامة حصول الحمل أن ينحبسَ لسانك عن كلام الناس، فلا تقدر على أنْ تكلمهم إلّا رمزًا، بالإشارة بنحوِ يدٍ أو رأسٍ، وأصل الرمز: التحرك، ومنه الراموز للبحر لحركته، والتقييد بـ(تكلم الناس) قد يفهم منه أنّ لسانه منطلقٌ في الذكر والتسبيح والشكر، ممّا ليس من كلام الناس، ومنع لسانه من كلام الناس؛ إمّا لعدم قدرة على الكلام يخلقها الله تعالى فيه، فينحبس لسانه، وينعقد عن كلامهم، ويتفرغ للذكر بقلبه، وإمّا نهيٌ له عن الكلام مع قدرته عليه؛ لانشغاله عن كلام الناس بالذكر والشكر والتسبيح، الذي أمره بهِ ربه باللسان في قوله: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) والعشيّ: من الزوال إلى الغروب، أو من العصر إلى أول الليل، والإبكار: جمع بَكر، كسَحَر وأسْحَار، من الفجر إلى الضّحى.
[1]) (هُنَالِكَ) إشارة للمكان، وتصلح مجازًا للزمان، مثل ثَمّ وحيث.
[2]) (فنادته) الفاء للتعقيب، والملائكة جمع ملَك، أو أل فيه للجنس الصالح للواحد والجمع، وجملة (وهو قائم) حالية، وأل في المحراب للعهد، وهو الموضع الذي خصصته مريم للعبادة.
[3]) مريم: 13.
[4]) مسلم: 6004.
[5]) البخاري: 7109.
[6]) البداية والنهاية: 8/135.
[7]) [ص: 241].
[8]) الحصور فعول بمعنى مفعول، كرسول بمعنى مرسول.
[9]) مِن يصح أن تكون ابتدائية أو للتبعيض.
[10]) عاقر وصفٌ خاص بالمرأة، ولذلك لا تلحقه التاء كحائض وطامث، وجملة (وامرأتي عاقر) حالية.
[11]) البقرة: 260.