المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (165)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (165)
(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)[آل عمران:45-49].
(إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ)([1])، قوله: (بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ) هي أمره إذا أرادَ شيئًا أن يوجدَ فيوجدُ دون توقفٍ على شيءٍ، بشّرتْها الملائكة بأنّ الله يخلقُ فيها حملًا دون أبٍ، بكلمة منه للحمل: كنْ فيكون (اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) المسيح لقب، و(عِيسَى) اسمه، و(ابْنُ مَرْيَمَ) وصفٌ له([2])، وأطلقَ على الثلاثة اسمٌ لأنها تشترك في تمييز المسمَّى، الذي بشرَ الله تعالى به مريم، حالة كونه وجيهًا([3])، مكرمًا مشرفًا رفيعَ الشأنِ، كما قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: (وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا)([4]).
(فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) وجاهته في الدنيا بالنبوة والصَّلاح، وفي الآخرة بعلوِّ الدرجةِ في الجنةِ، ومِن المقربين إلى الله برفعه إليهِ ورضوانهِ عليه، حالة كونه مُكلِّمًا الناسَ (فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) مكلمًا لهم في حالينِ؛ في حالِ وهو رضيعٌ، وفي حالِ الكهولةِ وبلوغِ الأشُدّ حينَ أوحَى اللهُ إليه، والمهدُ: ما يمهدُ مِن الفراش ونحوه لمضجع الصبيِّ، في سنّ الرضاعة، على هيئة الصندوقِ لحفظهِ، وكلامُه في المهد وهو رضيعٌ كان معجزةً وإرهاصًا لنبوتهِ، وتبرئةً لوالدته، حين قال لِمَن عرّضوا بها: (إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) إلى أن قال: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي)([5])، وسنّ الكهولة مِن الأربعين إلى الخمسين، وكلامه في الكهولة هو كلامُه بالوحي، ودعوتُه قومَه لرسالة ربهِ، ووَردَ أنه بُعث وعمرُه ثلاثٌ وثلاثون (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) كان من المقربين ومن الصالحين، والصلاحُ: الاستقامة الظاهرة والباطنةُ في القلب والجوارحِ.
(قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أَنَّى اسمُ استفهام بمعنى كيف، للتعجبِ والاستعظام، استعظمتْ مريمُ وتعجّبتْ؛ كيف يكون هذا الأمرُ الخارقُ للعادة، وهو أنْ تلدَ الأنثَى دونَ أنْ تتصلَ برجلٍ! فأجيبتْ مِن قِبل الملائكة: (قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) القائلُ هو الله تعالى بواسطةِ الملائكة، بقرينة ما تقدمَ وهو قوله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ)، فالله تبارك وتعالى لم يكلم أحدًا في الحياةِ كفاحًا إلّا الخاصّةَ مِن الأنبياءِ، وجملةُ (اللهُ يخلقُ مَا يَشَاءُ) وقعتْ موقعَها لإزالةِ الحيرةِ عن سؤالِها، وجاءَ التعبيرُ في البشارةِ بعيسى عليه الصلاة والسلام (يَخلُقُ مَا يَشَاءُ) وفي البشارة بيحيى عليه الصلاة والسلام (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) لأنّ الخلقَ محضُ إيجادٍ، لم يكنْ فيه شيءٌ مِن قانونِ الأسبابِ، وهذا يناسبُ خلقَ عيسى، فقيل: يَخلُقُ مَا يَشَاءُ، ويحيَى كان وجودُه باستعمال قانونِ الأسباب، إلّا أّنها بمقتضى العادة كانتْ لا تفضِي إلى مسبباتِها، فكانت المعجزةُ بجعلِها فاعلةً على خلاف العادةِ، ولذا قيل: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وجملة (كَذَٰلِكِ اللَّهُ) مبتدأٌ وخبر، أي: كهذا الخلقِ العجيبِ لعيسى عليه السلام من غير أبٍ، اللهُ يخلقُ ما يَشَاءُ على الدوامِ والاستمرارِ، ويتصرفُ في مُلكهِ كما يُريدُ، وتقديمُ اسم الجلالة في قوله: اللهُ يخلقُ على الفعلِ يخلُقُ؛ ليزدادَ الحكمُ قوةً وهيبةً، تُبددُ استغرابَهُ عند سماعِهِ.
(إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) إذا أرادَ شأنًا مهمَا كانَ، صغيرًا أو عظيمًا، فإنه يحصلُ في حينِهِ، بمجردِ توجه إرادته إليه، دون توقف على شيء، وقولُه: (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) تمثيلٌ لسرعة تكوينهِ، مِن غيرِ توقفٍ على سببٍ، والجملةُ لإزالةِ التعجبِ الذي أظهرتهُ مريمُ (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) الواو في قوله: (وَيُعَلِّمُهُ) يصحُّ أن تكونَ للاستئنافِ، فتكونُ (ويُعلمُهُ) كلامًا مُستأنفًا مِن الملائكةِ، بعد انتهاءِ كلام مريمَ، وهو قولُها: (رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ).
ويصحّ أن تكونَ الواو للعطفِ، فتكونُ (ويعلمُهُ) معطوفة على (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ)؛ لأنّ جميعَه من كلام الملائكةِ، وإنْ تخلَّله الاعتراضُ بكلامِ مريمَ، بقولها: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ…).
وقوله: (الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أي يعلمهُ الكتابَ الذي هو الوحيُ والكتابة، فهو صاحبُ كتابةٍ وليس أميًّا، ويعلمُه الحكمةَ، والحكمةُ وضعُ الشيءِ في موضعهِ الذي يصلح فيهِ (وَرَسُولًا) ويجعلُهُ رسولًا، فهو مِن جملةِ بشارةِ الملائكةِ لمريم، أنه يكون رسولًا (إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وفيه حجةٌ على أنه أرسِلَ إلى بني إسرائيلَ لا إلَى غيرهمْ، كما يزعمُ بعضُ اليهود بأنه لم يرسَل إليهم (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) قال لهم: مضمونُ هذه الرسالةِ التي أُرسلتُ بها إليكم، أني قد جئتكم بِآيَة ومعجزةٍ تدلُّ على صدقِ رسالتِي، وقوله (بآيةٍ) أي: جئتكم مصحوبًا بجنسِ الآية والمعجزة، وليس ما جاءهم به هو معجزة واحدة.
والمعنى: أنّ اللهَ يعلمُ عيسى الكتابَ الذي يوحي به إليهِ والحكمةَ، ويجعلُهُ رسولًا إلى بنِي إسرائيلَ، يقولُ لهم: إنّي أُرسلتُ إليكمْ مِن عندِ اللهِ، مصحوبًا بالمعجزةِ الدالةِ علَى صدقِ رسالَتِي، والدليل على ذلك: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ…).
[1]) جملة (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ…) بدلُ اشتمالٍ مِن قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ).
[2]) ومن حيث الإعراب الثلاثةُ اللقبُ والاسم والوصف أخبارٌ متعددةٌ للمبتدأ، وهو اسْمُهُ (وَجِيهًا) صفة مشبهة مِن وجُه كشرُف، منصوبةٌ على الحالِ، وجملة (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) معطوفة على وجيهًا؛ لأنها جملة حاليةٌ في معنى المفرد، أي مكلِّمًا، وَكَهْلًا عطف على محلِّ جملة في المهدِ، المنصوبةِ على الحال، وجملة (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على (وَمِن المُقرَّبينَ).
[3]) وهي حال مقدرة؛ لأن الوجاهةَ حصلتْ بعد البشارة، وصاحب الحالِ (كلِمَة) حملًا على المعنى لا اللفظ، أي: الذي خلقه الله بالكلمةِ وجيهًا، وصحّ الحال من الكلمةِ وإن كانت نكرةً؛ لأنها موصوفةٌ بالظرف بعدها.
[4]) الأحزاب:69.
[5]) مريم: 19.