المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (168)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (168)
(ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[آل عمران:58-61].
(ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) الإشارة في قوله (ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) إلى ما تقدم ذكره، مِن خبرِ عيسَى وأمّه وزكرياء عليهم السلامُ، وتلاوةُ القرآن: قراءته، أي: ذلك الذي قُصّ مِن خبرِ عيسَى وأمه هو قرآنٌ يُتلى ويُقرأ عليك بطريقِ الوحي، وهو مِن الآياتِ والدلائل والمعجزاتِ الدالةِ على صِدق رسالةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فـ(مِن) في مِنَ الآيَاتِ بيانيةٌ (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) الذّكر من أسماءِ القرآن، أي: من القرآن المحكم المتقن، المنزل ممن له الحكمة والعلمُ التامّ بدقائقِ الأمور، وتفاصيلِ أخبارِ الماضين.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) محلُّ المماثلة والمشابهة بين عيسى وآدم، هو خلقُ عيسى من غير أبٍ، وتمثيلُه بخلقِ آدم من غير أبٍ ولا أُم، وقوله: (عِنْدَ اللهِ) أي: نسبتُه إلى الله في أصلِ خلقهِ لا تختلف عن كيفية خلقِ آدم، فهما في واقعِ الأمر شيءٌ واحدٌ (خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) آدمُ خلقه من تراب، فضميرُ خلقَهُ لآدم؛ لأنّ عيسى لم يخلقْ مِن ترابٍ (ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) خلق آدمَ بمجردِ تعلقِ القدرةِ بخلقهِ، دونَ توقفٍ على شيء، والتعبير بالمضارعِ (فَيَكُونُ) دونَ (كَانَ) لاستحضار صورة التكوين والخلقِ، وكأنها ماثلةٌ في كل لحظةٍ، ونظيرُهُ في القرآنِ: (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا)([1])، والآية (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى…) استئنافٌ كلاميّ، للردّ على النصارى الذين كفروا بنسبةِ الولد إلى الله، ردّ عليهم بإقامة الدليل على بطلانِ شبهتِهم بطريقٍ إلزامي، لا يجد العقلُ انفكاكًا منه، وهو ما يُعرفُ بقياس الأَوْلى، فإذا لم يكن آدمُ إلاهًا بإقرارِكم، وهو خُلقَ مِن غير أبٍ ولا أم، فعيسى أوْلى بألَّا يكونَ إلاهًا، لأنّ كليهما خُلقَ من غير أبٍ، وآدمُ يزيد على عيسى بأنه خلق من غير أمّ أيضًا، والمعنى أنّ خلق آدمَ مِن غير أبٍ وأم، أعجبُ بمقتضى العادةِ من خلق عيسى مِن غير أب، فكيف عجبتم مِن خلق عيسَى وألّهتموهُ!! ولم تَعجبُوا من خلقِ آدم وقبلتُموه.
(الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ) (الْحَقُّ) أي: البيان والقصصُ المتقدم عن عيسى هو الحق (مِنْ رَبِّكَ) مِن للابتداء، أي: فالذي يصلُ إليك منشأُ وحيِهِ ونزوله مِن ربك (فَلَا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ) الشاكِّين، والمعنى: أنّ الذي ذُكر من إقامةِ الحجةِ على النصارى بأن المسيح مخلوقٌ للهِ، وعبدٌ من عباده، هو الحق الذي يأتيكَ وحيًا من ربك، لا شكَّ ولا مريةَ فيه، فلا تكنْ من الممترينَ الشاكين، والخطابُ (فَلَا تَكُنْ) وإن كانَ للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّ معناه التعريض بالنصارى، الذين يؤلهونَ المسيح، أمّا النبي صلى الله عليه وسلم فمعصومٌ من الشك، ومِن الامتراءِ فيما يأتيهِ مِن ربه، أو هو خطابٌ عام لكل أحدٍ غير معين، يشملُ كلّ مَن يتأتَّى منه الخطابُ.
(فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) المحاجّة: المجادلة (فِيِهِ) أي في عيسى، و(تَعَالَوْا) اسم فعلٍ ملازم للبناءِ على الفتحِ، مثل: هلمَّ، أي أقبِلوا، وهو طلبُ إقبالٍ بالآراءِ والعزيمةِ لحسمِ الأمرِ في المجادلةِ، لا الإقبال بالأبدانِ (نَدْعُ) نحضرُ (نِسَآءَنَا) النساء إذا أضيفتْ إلى الرجالِ فالمقصودُ الزوجاتُ، وقدمَ الزوجات والأبناء على الأنفسِ في الدعوةِ للمباهلةِ للاهتمامِ؛ لأنّ الرجلَ يقاتلُ ويموتُ دونَهما (نَبْتَهِلْ) يقال: ابتهَلَ ابتهالًا وبَاهَلَ مُباهَلَةً، والاسم البهل بالضمِّ والفتحِ، أصلهُ التركُ والتخليةُ، تقول: بهلت البعيرُ تركته، ثم شاعَ في الاسترسال في الدعاء والتضرع مطلقًا؛ باللعن وغيره (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) عطف على نبتهل، من عطف المفصل على المجمل، والآية في محاجةِ وفدِ نجران، وهم من أشار إليهم القرآن فيما تقدم، في قوله: (فَإِنْ حَاجُّوكَ)، وقوله هنا: (فَمَنْ حَآجَّكَ) يعني فإن استمروا في المجادلة في عيسى عنادًا ومكابرةً، من بعد ما جاءك من العلم والبيان الواضحِ في شأنه، وأنه مخلوقٌ وليس إلاهًا؛ فادعُهم إلى المباهلة، والمباهلة: أن يدعوَ أحد الأطراف في الخصومة – إذا استحكمت، وظهر العناد – يدعو كلَّ طرفٍ من الأطراف أن يحضرَ أحبَّ الناس إليه: الأبناء والأزواج، ويبرزوا جميعًا إلى الفضاء، واقفينَ مبتهلينَ جميعًا متضرعينَ إلى الله، داعين أن لعنةَ الله على الكاذبِ، أي على الظالم منهم في الخصومة، والدعوةُ إلى المباهلةِ دعوةُ إنصافٍ وعدلٍ، لا يطلبُها مِن الأطرافِ إلا الواثقُ بأنه على حقٍّ، ولم تقعِ المباهلةُ التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وفدَ نجران، فقد روى أصحاب السيرِ أن وفد نجران قدمُوا المدينةَ في السنةِ التاسعةِ، وكانوا ستينَ راكبًا، ناظرَهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم بالمسجدِ في أمرِ عيسى عليه السلام، فلما حجَّهم ولم يجيبُوا، دعاهُم إلى المباهلةِ، فقالوا: حتى ننظرَ في أمرِنا، فلما نظرُوا قالوا للعاقب([2])، وهو ممن كان على رأسِ الوفد، وكان صاحبَ رأي: ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم نبوتَه، ولقد جاءكم بالفصل في أمر صاحبِكم – يعني عيسى – والله ما باهلَ قوم نبيًّا إلا هلكُوا، فإن أبيتم إلا دينَكم فوادعوا الرجلَ وانصرِفُوا، فأتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقد غدَا محتضنًا الحسين، آخذًا بيدِ الحسن، وفاطمةُ تمشي خلفه، وعلي رضي الله عنه خلفها، وهو يقول: إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا، فقال أسقفُهم([3]): يا معشر النصارى؛ إني لأرى وجوهًا لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله، فلا تباهلوا فتهلكوا، فأذعنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا الجزية، وكانوا أولَ مَن أدّى الجزيةَ للمسلمينَ([4]).
[1]) الروم: 48.
[2]) العاقب: الذي يعقب السيد والأمير.
[3]) الأسقف: حبر النصارى وعالمهم.
[4]) الرحيق المختوم: ص/414.