المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (173)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (173)
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[آل عمران:81-83].
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)([1]) أي اذكر يا محمد؛ إذ أخذ الله العهد والميثاق على الأنبياء من قبلك (لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَة) العهد الذي أخذَ عليهم فيما أنزل عليهم مِن الكتب، وفيما أعطاه الله إياهم مِن الحكمة والهداية، والتبصُّر بحقائق الأمور على الصوابِ والسدادِ، وأخبرهم فيما جاءهم مِن ذلك كله بأنه سيرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان، مصدقًا لما جاؤوا به، وأخذ عليهم الميثاقَ وعلى أتباعهم من بعدهم في الأجيال اللاحقة لهم؛ أن يؤمنوا بمحمدٍ، وأن ينصروه، ويؤازِروه.
(قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا) الإصر: العهد والميثاق المغلظ المؤكد، من الإصار: وهو ما يربط ويوثق به من حبل ونحوه.
من جملة ما اشتمل عليه الميثاق والعهد، الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء وأتباعهم، إقرار الأنبياء وأتباعهم بما تقدم، من الإيمان بالنبيّ ونصرته ممن أدركه مِن أتباعهم، فقالوا: أقررنا وتعهدنا بذلك (قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) قال الله لأنبيائه: اشهدوا على أممكم بذلك العهد، على تصديقهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليَفوا به، ولتفي أجيالهم من بعدهم بما تعهدَ أنبياؤُهم، والله تعالى بعد ذلك شاهدٌ على الجميع، وكفى بالله شهيدًا (فَمَن تَوَلَّىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) فمن تولى من أتباع الأنبياء في جميع العصور، من بني إسرائيل ومِن غيرهم، فأولئك هم الفاسقون، فهو عامّ في كل مَن تولّى عن العهد ونكث، وليس خاصًّا ببني إسرائيل، ولذا لم يقلْ: فمَن تولى من بعد ذلك (منكم)، كما في الآية التي خاطبت بني إسرائيلَ في المائدة: (فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)([2]).
والمعنى: مَن تولى ونكثَ العهد، ولم يلتزم بما أخذه الله من الميثاق على الأنبياء وأتباعهم فَأولَئِكَ همُ الفَاسِقُونَ حقًّا لا غيرهم، والفسق: الخروج والتمرد عن أمر الله، وقصَرتِ الآيةُ الفسقَ عليهم([3])، حتى كأنه لا فاسق غيرهم مقارنة بفسقهم، فالفسق الذي ارتكبوه لا يقاربه في الجحود فسقٌ آخر، والخطاب في قوله: (فَمَنْ تَوَلَّى) للأتباع لا للأنبياء؛ لأن الأنبياء لا يكون منهم تَولٍّ عن الإيمان.
(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)([4]) هذه الآية تفريع مترتب عما أخذه الله تعالى من الميثاق على النبيئين، والتقدير: ها قد علمتم أن من تولى فقد حكم الله عليه بالفسق، أفتتولونَ أنتم وتفسقُون، وتبتغون غير دين الله دين الإسلام؟! والحال أنه أسلم وأذعن له كل مَن في السموات والأرض، طائعين أو مكرهين، لم يسعهم غير ذلك، والإسلام كَرهًا كإيمانِ الملائكة المجبولين على الإيمان؛ فإنه لا خيار لهم فيه، وكإيمان مَن عاند ثم قامت عليه الحجة، وأُلزم بها، وكإيمان المضطر حين يرى العذابَ ولا ينفعه إيمانه، كالذي غرغرَ وعاينَ الموت.
والخطاب في الآيةِ على قراءة تبغونَ للنصارى، على نسق ما قبله، وعلى قراءة يبغونَ بالياء يكون للمسلمينَ، وفيه التفات.
وقدم المفعول (غَيْرَ) على تبغون اهتمامًا به؛ لأنّ المقصود بالإنكار عبادة غير الله (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) للحساب، ويتضمن الإخبار بالرجوع إليه وعيدًا لمن طلبَ غير دين الإسلام دينًا، فإن مرجع الجميع إلى الله في القيامة، فيوفي كل نفسٍ ما عملت، وهم لا يظلمون.
[1]) اللام في (لَمَا آتَيْتُكُمْ) موطئة للقسم، المفهوم مِن أخذِ الميثاق؛ لأن الميثاق في قوة القسم، ومعنى موطئة للقسم: أنها تدل على قسم مقدر، ومؤذنة ومعرفة بأن الجواب الآتي في الجملة -وهو (لتؤمنن به)- هو للقسم، لا للموصول الذي دخلت عليه اللام، فإن (مَا) التي دخلت عليها اللام اسم موصول مبتدأ، وهو في معنى الشرط، وجملة (لتؤمن به) التي هي جواب القسم سدّت مسد الخب، ودلت عليه، ومن في (مِنْ كِتَابٍ) بيانية.
[2]) المائدة: 12.
[3]) القصر مستفادٌ من تعريف جزئي الجملة (أولئك) و(الفاسقون) وضمير الفصل (هم).
[4]) الهمزة في (أفغير) للاستفهام الإنكاري، والفاء للعطف على قوله: (فَمَنْ تَوَلَّى بعدَ ذَلكَ)، ويبغون مِن فعل بَغى المتعدي يبغي بَغاء وبِغاء، بمعنى طلب، بخلاف بغى يبغي القاصر، فهو بمعنى اعتدى وظلم، ومصدره البغي، و(طَوْعًا) من طاع يطوع، وأطاع يطيع، بمعنى انقاد، أي أسلم طائعًا رغبة في الإسلام باختياره، (وَكَرْهًا) الكَره بالفتح الإكراه، أي أسلموا مكرهين بدون اختيار، بخلاف الكُره بالضم، فهو المكروه، فتقول: لا أراك الله كُرها، أي مكروها.