المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (175)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (175)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)[آل عمران:90-91].
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) كاليهود والنصارى، آمنوا بعيسى ثم كفروا به، وفي حكمهم مَن فعلَ فِعلهم مِن هذه الأمةِ، أو الأمم الأخرَى، بأن آمنُوا ثم كفروا (ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا) ازداد اليهود والنصارى كفرًا، كفروا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بعد كفرِهم بنبيهم، وازدادَ غيرُهم ممّن ارتدَّ مِن هذه الأمة كفرًا، بإصرارهم على الكفرِ وعدوانِهم المتواصلِ على دينِ المسلمينَ، والطعنِ فيه، بإلقاء الشبهات في قلوبِ ضعاف الإيمانِ مِن أتباعهِ؛ ليصدُّوهم عن دينِهم، فهذا ونحوه من العداء للدينِ زيادة كفرٍ على كفر (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ)([1]) معنى الآية: مَن كانَ كذلك في الشرّ والعنادِ، فإن الغالبَ من حالهِ أنه لا تُرجَى له توبةٌ، ولا تحصلُ له إنابةٌ، فنفي القَبول مرادٌ به نفي حدوث التوبة منهم غالبًا؛ لأنّ قَبول التوبةِ مترتبٌ على حصولها منهم، وهي لا تحصل([2])، أو المراد أنهم لكثرة كفرهم وازديادهم فيه، لا يُصَدّقُون في دعوَى التوبة بأريحيةٍ، كما يصدَّق غيرهم، بل يجبُ أن يُحتاطَ منهم؛ لأنه يكثر فيهم أن يُظهروا التوبة نفاقًا، حتى يكونوا منكم في مأمنٍ، وهم يزدادونَ تمكنًّا من الكفر الذي طُبعوا عليه، وتأويلُ الآيةِ على هذا النحو متعينٌ؛ لمعارضةِ ظاهِرِها لقطعياتِ الشريعةِ، بقَبول التوبةِ مِن الكفر والمعاصي قبلَ الغرغَرة، وقد أسلمَ عبد الله بن سلام من اليهود قبلَ نزول هذه الآية، وأسلمَ أعدادٌ من النصارى، وحسنَ إسلامُهم، منهم دحية الكلبي رضي الله عنه (وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ) أي: الثابتون على الضلال الكامل، فقصرُ الضلالِ عليهم – المستفاد من تعريف جزئي الجملة الاسمية الدالة على الثبات – وتأكيده بضمير الفصل (هم) هو قصرٌ ادعائي، يفيدُ أنهم بلغُوا مِن الضلالِ الغاية، حتى كأن ضلالَ غيرهم لا يسمى ضلالًا مقارنةً بضلالهم.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)([3]) الموتُ على الكفرِ محبطٌ للعملِ، فمَن كفرَ ومات على الكفرِ ذهبَ عملُهُ أدراجَ الرياح؛ كما قال تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ)([4]) (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِلْءُ الْأَرْضِ) ملءُ الشيءِ ما يملؤُه من الأشياءِ لو وُضعَ فيه، كالمكيال والظرف الذي توضع بداخله الأشياءُ، وهذا غير مرادٍ؛ لأنّ ما في الأرضِ مِن الأشياء لا يملؤُها، وإلا لتعذرتِ الحياةُ عليها، فالمعنى: لنْ يُقبل مِن أحدهم الكثرةُ الكاثرةُ، الخارجةُ عن الحزر والعدِّ مهما بلغتْ، و(ذَهَبًا) منصوب على التمييز، أي: لا تُقبل به الفدية، وهو أنفسُ شيءٍ، فما دونه بعدمِ القَبولِ أوْلى (وَلَوِ افْتَدَى بِهِ) لو هنَا وصليةٌ للمبالغة، أي: لو بلغَ ما افتدى به مَن ماتَ على الكفرِ هذا المقدار، وهو ملءُ الأرضِ ذهبًا، ليمنعَ نفسه مِن النارِ؛ لما نجا مِن عذابِ الله (وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (مِنْ) لتأكيد استغراق نفي النصرة بالشفاعة ونحوها، فلا الفدية تقبل، ولا النصرة بكفالةٍ أو شفاعةٍ توجدُ، وهو مبالغةٌ في الإقناط والتيئيس مِن أيّ أمل، لمن ساءتْ خاتمتُهُ، وذكر نفي النصرة بالشفاعة ونحوها؛ لأنّ الذي يؤخذُ في أمرٍ شديدٍ عليه، لا سبيلَ له في الخلاصِ بمقتضى قانون الدنيا، إلّا بالفزع إلى الفديةِ بالمالِ، أو النصرة بالشفاعة والوجاهة، وكلاهما لا سبيلَ إليه، والتقدير: إنّ الذينَ كفرُوا وماتُوا وهم كفارٌ أولئكَ لهم عذابٌ أليمٌ، ولن يُقبلَ منهم في الآخرة اعتذارٌ ولا فديةٌ، حتى لو افتدَوا بملءِ الأرضِ ذهبًا، ولا تقبل لهم شفاعة، ولا يجدون لهم من أحدٍ نصرةً.
[1]) جملة لن تقبلَ توبتهم في موضع خبر الموصول، ولم تقترن بالفاء لأن صلة الموصول (الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ) لا تصلح سببًا لعدم قبول التوبة، إلا على تأويلٍ على خلاف الظاهر كما يأتي، بخلاف الآية التي بعدها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) فإنه لما كان الموت على الكفر سببًا في عدم قَبول الفدية منهم، اقترن خبر الموصول (فَلَنْ يُقْبَلَ) بالفاء، وأجري الموصول فيه مجرى الشرط.
[2]) على حد قول امرئ القيس: (عَلى لاحِبٍ لا يَهتَدي بِمَنارِهِ) أي لا منارة له فيهتدى بها.
[3]) (وَمَاتُوا وهُمْ كُفّارٌ) جملةٌ حالية، قيدٌ في الموصولِ وصلتهِ، والصلةُ (كَفَرُوا) بهذا القيدِ وهو (وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ): سببٌ في ألّا تُقبل منهم فديةٌ، لذا اقترن خبر الموصول (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم) بالفاء؛ لجريانه مجرى الشرط، وهو معنى قولهم في مثل هذه الحالة: اقترنَ خبر الموصول بالفاءِ لشبههِ بالشرط، والشبه أتى مِن حيث إنّ الصلةَ كانت سببًا في الخبر، كما أن الشرطَ سببٌ في الجزاء.
[4]) إبراهيم:18.