المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (180)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (180)
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)[آل عمران:98-102].
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) عودٌ للإنكار على أهل الكتاب، وتقريعهم على الكفر، بعد أن ترسخ أنّ الدين عند الله الإسلام، ومَن يبتغِ غيرَه فلن يُقبلَ منه، وافتتح خطابه أهلَ الكتابِ بالاستفهام (لِمَ تَكْفُرُونَ) وهو استفهام إنكاري توبيخي على كفرهم؛ لأنه كفرٌ معلَنٌ مع قيام الحجة عليهم، ووضوح الآيات على بطلان كفرهم، فآيَات اللهِ التي يكفرون بها هي آيات الوحي والقرآن، والآيات العقلية: المعجزات الدالة على صدق الأنبياء الذين كفروا بهم، فقد كفروا بالأدلة السمعية والعقلية (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) تكفرونَ والحالُ أن الله شهيدٌ على أعمالكم الكفرية، فيجازيكم عليها.
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ) (تَصُدُّونَ) مِن صدَّ، يجيء فعلُه لازمًا بمعنى أعرض، ومتعديًا بمعنى منع، وكِلا المعنييْنِ واقعٌ منهم يفعلونَه، فهم يُعرضون عن الحق في أنفسهم، ويمنعون عنه غيرهم، كما قال تعالى: (قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ)([1])، و(سَبِيلِ اللهِ) الطريق الموصلة إلى الحق، وهو دين الإسلام، وتبغونَها مِن البَغي، وهو السعي والطلب، تطلبون السبيلَ، وتسعون إلى أن يكونَ معوجًّا، فضمير التأنيث في تبغونها للسبيل؛ لأنها تؤنث وتذكر، كما قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي)([2])، و(عِوَجًا) مِن عَوِجَ كفَرِحَ، والمصدر العَوج، بالفتح والكسر، فبالفتح توصف به المحسوسات، كالخشبة والعصا، ونحوها، وبالكسر للمعنويات، وما لَا يُشاهدُ بالحسِّ؛ كالطريقة والشريعة، وعِوجًا هنا وُصفتْ به الطريق الموصلةُ للحقِّ؛ مبالغةً في وصفهم الحقَّ نفسَه بالاعوجاج، أي: فأنتم تسعونَ لتكونَ السبيل الموصلةُ للحقِّ الذي جاء به الدينُ عوجاءَ شديدةَ العوج، أو: باغينَ لها اعوجاجًا بالتلبيسِ على الناس.
وقد كرّرَت الآية النداءَ لأهل الكتاب بأسلوب الاستفهام الإنكاري مرةً أخرى؛ مبالغةً في تقريعهم، وللإشارة إلى أن كلًّا مِن الكفر الذي هم عليه، والصدِّ عن سبيلِ الله الذي يرتكبونه، مستقلٌّ بالإنكارِ، كلّ واحدٍ منهما يستحق التوبيخَ، وصدّهم عن سبيلِ اللهِ هو صرفُ (مَنْ آمَنَ) وأسلم مِن العرب ومن اليهود عن الإسلام، بالفتن وإيراد الشبه، وتفريقِ الصفوف وإشعال الحروبِ، وقد فعلَ اليهود هذا، عندما نكثوا العهود، وتحالفوا مع الأحزابِ في غزو المدينة، وعندما حاولُوا أن يحركُوا ما كان بين الأوس والخزرج مِن اقتتالٍ في الجاهلية، فحرّضوهم حتى تنادوا للسّلاح، كما يأتي قريبًا في سبب: (إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).
وما نراهم يفعلونَه في أيامِنا، مِن خلالِ المشروعِ الصهيوني في المنطقة، بوسائل عدوانية شتَّى، هو امتدادٌ للعوجِ الذي ذكرتِ الآيةُ أنهمْ يبغونهُ مِن قَديم، ومِن مظاهرهِ اليومَ؛ رمْيُ المقاومينَ لهم القائمينَ بالحقِّ في فلسطين وخارجها من العلماء والدعاة بالإرهاب، وغيره من الشعارات التي يشوهونهم بها، يردِّدونها، ويردِّدها معهم عملاؤُهم من داخل الأمةِ؛ ليلصِقوا بالإسلامِ وأتباعِه هذه الأوصافَ؛ استعداءً لأمَمِ الأرض عليهم، وللتنفير مِن الإسلام، الذي تنسابُ دعوتُه في بلادهم انسيابَ الماء الزّلال.
ومن مظاهرِ عدوانهم الحديث؛ إثارةُ الفتنِ والنزاعاتِ والخصوماتِ في بلادِ المسلمين؛ لينصرفُوا عن النهوضِ بالأمة، إلى الانشغالِ بمعارك وحروبٍ طاحنةٍ تُذهبُ ريحهم، وتدمرُ بلدَانَهم؛ لتبقى الأمةُ ممزقةً، وشعوبُها فارَّةً مِن حكّامها الظلمةِ، تبحثُ عن لقمةِ العيشِ مسلوبةَ الإرادةِ، تحت هيمنةِ أعدائها وتحكمهم، مِن خلالِ عمَلائِهم الذينَ يحمُون لهم عروشهم؛ ليدمِّروا شعوبَهم، وهو ما نراهُ الآنَ في أكثرِ بلادِ العرب، ومِن هؤلاءِ الحكامِ مَن استجرّهمُ الصهاينةُ إلى مَا يسمّونهُ التطبيعَ معَ العدوِّ – بعد أنْ فرّطوا في مقدساتِهم – باسمِ التسامحِ الدينيّ، وإلى أنْ يدعُوا إلى صورةٍ إلحاديةٍ محرّفةٍ للإسلامِ، أطلقُوا عليها: الدّين الإبراهيميّ، أخزاهُم اللهُ، فهم مثل أسيادهم؛ يبغونَهَا عِوجًا.
(وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ) تبغونَها عوجًا، والحالُ أنّكم في أنفسكم تقرُّونَ وتعرِفُونَ استقامَتَها وسلامَتها، تفعلونَ ذلك لِتُضلّوا الناسَ، وتصدُّوا عنها (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لِتعلَموا أنه غيرُ خافٍ عنِ الله مكرُكم، فلا تظنّوا أنكم بمنأى من عقابِ الله.
ولما كان في الآية الأولى الكلام على كفرهم، وهو ظاهر للعيان، ختمت بقوله: (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ) وفي الثانية الكلام عن صدهم ومكرهم، وهو مما يخفى، ختمت بما يفيد اطلاعه على الخفايا، بقوله: (وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) الفريق: الجماعة من الناس، وسبب النزول يدلُّ على أن هذا الفريق هم شاس بن قيس اليهودي ومن معه (يَرُدُّوكُمْ) يرجعونكم كافرين، والآية خطاب من الله للمؤمنين بدون واسطة؛ تعظيمًا لشأنهم، يأمرُهم أن يحذَروا كيدَ اليهود، وأن يُعرضوا عمّن يصدُّون عن سبيل الله، ولا يلتفِتوا إليهم، ولا يسمعوا أراجيفهم وباطلهم؛ لأنهم لا يبغونَ من ذلك سوى أن يعود المؤمنون إلى الكفر، ويسلكوا سبيلَهم المعوج، وسبب نزول الآية أن بعض اليهود – شاس بن قيس – ساءه الذي حصل بين الأوس والخزرج من الألفة، فأراد تفريقهم، فأرسل إليهم مَن ذكَّرهم بما كان بينهم يوم بُعاث، وما قيل في ذلك مِن الشِّعر، فتحركت الأحقَادُ والثَّاراتُ القديمة، حتى نادى كلُّ فريقٍ قومَه: يا للأوس! يا للخزرج! وأخذوا السلاح، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أبِدَعْوَى الجاهليّةِ وأنَا بينَ ظَهْرانِيكُم؟!) فانصلحَ أمرهم، قال جابر: “ما رأيت يومًا أَقبحَ ولا أوْحَشَ أوَّلًا وأحْسَنَ آخِرًا مِن ذَلِكَ اليَوْمِ”([3]).
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) الاستفهام في كيفَ تكفرونَ تعجيبي، للتعجيبِ من حالهم، أن يسمَعوا لهم ويطيعوهم، بعد أن مَنَّ الله عليهم، ومهّد لهم أسباب الهداية، وعرفت قلوبهم الحقَّ، فآياتُ القرآن تُتلى عليهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وفي قوله: وفيكُم رسولُه تنويهٌ بفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومنقبة عظيمة لهم بالصحبة، حتى قالوا: لم يُمدح أحد منهم بوصفٍ أكرم وأبجل مِن وصف الصحبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلاَ نَصِيفَهُ) ([4]) أي نصف مدٍّ (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن يتمسك بالدين، ويثق بالله، يثق بأنَّ الأمرَ أمرُه، والقولَ قولُه، والحكمَ حكمُه، ولا معقّبَ لحكمه، ولا رادَّ لأمره، مَن عَقدَ قلبَه على ذلك فقد هُديَ إلى الطريقِ الحقِّ، المأمونةِ العواقب، التي لا عِوجَ فيها، ولا ندمَ يلحقُها.
[1]) المائدة:77.
[2]) يوسف: 108.
[3]) سيرة ابن هشام: 1/556،555.
[4]) البخاري: 3673.