المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (19)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (19)
سورة البقرة:
(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)[البقرة:19].
(أَوْ كَصَيّبٍ) الصيبُ: المطرُ، مِن صَابَ يَصُوبُ، إذا انحطَّ مِن عالٍ إلَى سفلٍ، و(أَو) العاطفة يمكن أن تكونَ للإباحةِ؛ كما في قولهم: جالِس الحسنَ أو ابنَ سيرين، أي أنّهما سيّان، وكما في قوله تعالى: (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)[1]، فهما متساويانِ في وجوبِ العصيان وعدمِ الطاعة، ويردُ عليه أن الإباحة أكثر ما تكونُ في الطلب؛ كما في المثال السابق والآية، وهنا الجملة خبرية، والمعنى -عليه- أنّ المنافقينَ يشبَّهونَ بهذين المَثَلين؛ الأول مثل (الذِي استوقَد نَارًا)، وقد تقدّم، والثاني مثل حالة (صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)، وسواء مَثّلتهم بهذَا أَوْ بهذَا، أو بهمَا معًا، فكلّ ذلك صوابٌ.
ويمكن أن تكونَ أو بمعنَى الواو، كما في قولِ جريرٍ يمدحُ عمرَ بن عبد العزيز:
جَاءَ الخِلَافَةَ أوْ كَانَت لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
ويمكن أن تكونَ (أو) للتفصيلِ والتقسيم؛ كما تقول: الكلمة اسم، أو فعل، أو حرف، وذكر السماء في قوله: (من السّماء) -مع أن المطرَ لا ينزل إلا من السماء- استحضارًا للصورةِ الفظيعةِ المروّعة؛ ليشتدّ هولُهم.
و(السماءُ) كلُّ ما علا، قال تعالى: (أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)[2]، وأصلُ الأرض كلُّ ما سَفل، والأفقُ الذي نراه فوقنَا كالقبةِ الزرقاء سماءٌ، وفوقَ كلّ سماءٍ سماءٌ، والله تعالى أخبر في القرآنِ عن سبع سماوات، والقليلُ هو الذي علِمه الإنسان عن السماوات، وعن هذا الفضاءِ الكونيّ الهائلِ، وتُطلَق السماء أيضا على المطرِ؛ لأنّه ينزلُ مِن السماء، ومنه قول الشاعر:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
وجاء ذكر السماء معرفةً؛ ليفيد قوةَ الصيب وغزارَته، وأنه مُطْبقٌ من كلّ الجهات، وليس مِن جهة واحدة، وأنّه من السماء المعهودةِ، التي تعمّ الآفاق (فِيهِ ظُلُمَاتٌ) هذا يفيد أن الظلمات في المطر، والواقعُ أن المطر هو الذي في الظلمات، وليس العكس، وجيءَ به كذلكَ للمبالغةِ؛ فكأَن الظلمة لشدتها تنبعث وتتدفقُ مع المطر؛ كما في قوله تعالى: (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ)[3]، فالأعناق في الحقيقة هي التي في الأغلال، وليس العكس، لكن لمّا كانت الأغلال ضيقةً على الأعناق حتى تحزّها، كانت فيها.
وهي ظلماتٌ؛ فليس في هذا الصيب ظلمةٌ واحدة، ظلمةُ الليل وظلمة الدجن، التي تتزايد وتتراكب، فهي ظلماتٌ بعضُها فوق بعض (وَرَعدٌ) يقال: رعدت السماء وبرقت، ورعد الرجل وبرق؛ تهدَّد وتوعَّد، ورعدتِ المرأة وبرقت؛ تزينت وتحسَّنت، وأرعدَ القوم وأبرَقوا؛ أصابَهم الرعد والبرق، والرعدُ صوتٌ ينتج عن احتكاكِ السحب المتراكمة، عندما تتزاحم (وَبَرقٌ) مِن البريق، وهو الضوء اللامع الذي يسبق صوت الرعد، يسطع وينيرُ الظلام فجأة ويختفي؛ فتشتدّ بعده الظلمةُ، وهو شحناتٌ كهربائية تتولدُ مِن احتكاك السحب، ينقدحُ النور من اصطكاكِ سحبها، وترسلُ أحيانًا الصواعق، وقد ورد: (مَن قالَ حين يسمعُ الرعد: سبحانَ الذِي يُسبحُ الرعدُ بحمدِه والملائكةُ مِن خِيفتهِ؛ عُفي ممّا يكونُ في ذلكَ السحابِ)[4].
(يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) الصَّوَاعِق: شحناتٌ كهربائيةٌ تسقطُ مِن السماءِ عند صوتِ الرعدِ، واحتكاك السحب.
مثلُهم كمثلِ الذينَ يسدونَ أذانَهم بأصابِعِهم؛ لِما يصكُّ أسماعَهم مِن الرعد القاصف، ولِما ينزلُ بهم من هولِ حارق الصواعق، فمِن في قوله: (منَ الصواعقِ) للتعليل، وحذرَ الموتِ مفعولٌ لأجلِه، فهم يَحذرونَ الموت، ويخافونَ أن يتخطفَهم مِن كل مكان.
(وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ) وعذابُ اللهِ محيطٌ بهم ومطبقٌ عليهم مِن جهاتِهم، لا يفلتُهم منهُ فزَعٌ، ولا ينجِيهم منه حذَرٌ.
[1] [الإنسان:24].
[2] [إبراهيم:24].
[3] [غافر:71].
[4] أثر موقوف على كعب الأحبار، ذكره عنه ابن عباس لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وعمل به، وإسناده حسن.
والطبراني في الدعاء (985)، وذكره ابن علان في الفتوحات الربانية (4/286).