المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (216)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (216)
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا)[النساء:3-4].
(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً([1])) أي: فإنْ خفتم الجورَ والظلمَ إذا عدّدتم الزوجات؛ فعليكم أن تقتَصِروا على امرأةٍ واحدة، وذرُوا التعددَ والجمعَ بين النساءِ، إذا كان يوقعُكم في الظلم، ولا تقدرونَ معه على العدلِ، والعدلُ المشروطُ للتعدد هو في النفقةِ والكسوةِ والمعاشرةِ الحسنةِ، وعدمِ الإضرارِ، مما هو في قدرةِ المكلَّفِ، لا فيما لا يقدرُ عليهِ، كالمحبةِ والميلِ القلبي، ولذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمُ بين زوجاتِهِ، ويقولُ: (اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ)([2])، وللتعددِ مع العدلِ منافعُ كثيرةٌ، وأسبابٌ تعودُ بالنفع على المجتمعِ وعلى الأمة، فصّلتُها في مدونةِ الفقه المالكيّ وأدلته، في بابِ النكاح، عند الكلامِ على تعددِ الزوجات([3])، لكن التعدد مع الجور والظلم ينقلبُ إلى بركانٍ مدمرٍ للأسرة، وذلك عند فقد شرطِهِ الذي ذكره القرآنُ، وهو العدلُ أو القدرة عليه، فينقلبُ وبالًا على البيت وخرابًا، تنبتُ معه الضغائنُ والأحقاد، والكراهيةُ والعداواتُ، والعقوق بين الأولاد والآباء، فيختلُّ كيانُ الأسرة، وينهدمُ بنيانُها.
(أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أيمانُكم: جمع يمين، واليمين تطلقُ في كلام العرب على القوةِ، وعلى اليدِ إذا أمسَكتْ بالسيفِ ونحوه، وملكُ اليمينِ هنا هوَ ما يغنمُ مِن السَّبْيِ في جهادِ المحاربينَ من الكفرةِ، وإذا عطفتَ: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) على قوله: (فَوَاحِدَةً) يكونُ المعنى: عند الخوف مِن الظلم وعدم العدل بين الزوجاتِ، الواجبُ هو الاقتصارُ على زوجة واحدةٍ، والعدد مِن ملك اليمين، فيفيد العطفُ أنّ ملكَ اليمين لا يطلبُ فيه العدلُ الواجبُ بين الزوجات، مِن التسوية في القسْم ونحوه؛ لأن العطفَ سوّى بين الواحدة مِن الأزواجِ والعددِ مِن الإماءِ عند الخوف، فجُعِلَ البديلُ عند حاجةِ الرجل إلى التعددِ الذي لا يقدرُ معه على العدلِ هو ملكُ اليمين، من غير قيد ولا عدد، ويصح عطف: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) على قوله: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم)، ولا يكونُ فيه حينئذٍ إشارة إلى عدمِ العدلِ بين ملكِ اليمين، أي فانكحوا ما طابَ لكم من الزوجاتِ أو ملك اليمين.
(ذَلِكَ أَدْنَى أَن لَّا تَعُولُواْ) الإشارة عائدةٌ إلى المذكور مِن الكلام، ولذلكَ أُفردتْ، وإنْ كان المذكور تفصيلا لصورٍ متعددةٍ مِن أحكام التعدد، على معنى: ذلكَ المذكورُ، ينتهي بكمْ إلى أن تكونوا أقربَ إلى العدلِ، ويصحُّ أن تعودَ الإشارةُ إلى قوله: (فَوَاحِدَةً)، ويكون المعنى: أنّ الاقتصار عند الخوفِ من الجور على الواحدةِ والاكتفاءَ بها، أو مع ملكِ اليمينِ عوضًا عن تعددِ الأزواجِ، ذلك الاقتصارُ أقربُ إلى العدل واستقرارِ البيت، ويكون فيه إشارة إلى الترغيبِ في الاكتفاء بالزوجةِ الواحدةِ، وأنها الأصلُ في النكاح، والتعدّد هو الاستثناء عند الحاجةِ الداعيةِ إليه، وقوله (تَعُولُواْ) مِن عالَ يعولُ عَولًا، إذا مالَ وجارَ، ومنه العَولُ في الفريضة؛ لأنه يدخلُ النقص على أصحابِها، ولذا قابلوا الفريضةَ العائلةَ بالعادلةِ.
وفسر (أَن لَّا تَعُولُواْ) بمعنى: ألّا تكثرَ عيالكم، وعليه تكون (عَالَ) بمعنى (مَانَ) تقولُ: مانَ يَمُونُ، بمعنى: أنفقَ؛ لأنّ كثرةَ العيالِ تتطلبُ النفقةَ والمؤونةَ.
(وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) (آتُواْ) أعطُوا، و(النِّسَآءَ) الزوجات (صَدُقَاتِهِنَّ) جمع صدُقة: المهور، و(نِحْلَةً)([4]) هي العطيةُ عن طيبِ نفس، التي لا تنتظرُ مكافأتها، والخطابُ للأزواج، ويصحّ أيضًا أن يكونَ للأولياءِ من الآباء ونحوهم؛ حتى لا يأخذَ الزوجُ شيئًا مِن صداقِ المرأةِ، ولا الوليُّ شيئًا مِن صداقِ ابنتهِ، أو ممّنْ تحتَ ولايتهِ، دونَ إذنها.
(فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) فإنْ طابتْ نفوسُ الزوجاتِ ورَضيتْ بالعطاءِ مِن صداقهنَّ، للأزواجِ أو للأولياءِ مِن الآباء ونحوهمْ، منشرحةً صدورهنَّ دونَ تبَرُّم، فلا حرجَ في أخذه، وهو معنى قوله (فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا) أي تملكوه وانتفعوا به طيبًا، وعبر بالأكلِ؛ لأنه أبْيَنُ أغراضِ التملك، و(هَنِيئًا مَّرِيئًا) صفتان مشبَّهتان، متلازمتان في الذكر على الاتباعِ، من هنَأَ الطعامُ ومَرَأَ، منصوبتانِ على الحال، ومعناهما: ساغَ ولذّ وطابَ، وحُمدتْ عاقبتُهُ، دونَ منغّصٍ يصحبُه أو يعقبُهُ([5])، و(مِنْهُ) في قوله (عَن شَيْءٍ مِنْهُ) أفادتِ التبعيض، و(شَيْءٍ) تنكيرها أفادَ التقليلَ؛ وفي ذلك إرشادٌ وتوجيهٌ للنساء إذا طابتْ نفوسهنَّ بشي مِن المهر للرجالِ، أنْ يكتفينَ بالقليلِ، ولا يبالِغْنَ، فقد يتنازلْنَ ويندَمْنَ.
وقد دلَّتِ الآيةُ على وجوبِ تسليمِ المهور إلى النساءِ، وتركِ ما كانوا عليه في الجاهليةِ، مِن أكلِ أموالِ مَن يتزوجونهنَّ مِن اليتامَى، ونبّهتْ إلى أّن الصداقَ عطيةٌ ونحلةٌ، مراعًى فيه المكارمةُ؛ إعزازًا وإكرامًا للمرأةِ، وليس المعاوضة والمكايَسَة، ثم بعد تسليمِه، إذا هي طابتْ نفسُها عن رضًا، بأنْ تعطيَ الزوجَ أو الوليّ شيئًا منه، كان ذلكَ له حلالًا طيبًا.
[1]) قُرئ: (فَوَاحِدَةٌ) بالرفعِ، على أنه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ، تقديره: تكفيكُم واحدةٌ، أو مبتدأٌ خبرهُ محذوفٌ، تقديره: فواحدةٌ كافيةٌ، وعلى قراءة النصبِ يكونُ مفعولًا لفعلٍ محذوف، تقديرهُ: فَانكِحُوا واحدةً.
[2]) المستدرك على الصحيحين:2761.
[3]) مدونة الفقه المالكي وأدلته:3/211.
[4]) منصوب على المصدر؛ لأنه في معنى الإيتاء، مثل قولك: قعدت جلوسًا.
[5]) الضمير في قوله (مِنْهُ نفْسًا) يعود على الصدَاقِ، مفرد صدقات؛ لأن مقابلة الجمع في قوله (وءاتُوا النِّسَآءَ) بالجمع في قوله (صَدُقَاتِهِنَّ) تقتضي القسمة آحادًا، أو أن الضمير (منه) يعود على الكلام المذكور، أي فإن طبن لكم عن شيء من المذكور نفسًا، و(نَفْسًا) منصوب على التمييز المبين للجنس، وجاء مفردًا، والمميَّزُ (طِبْنَ) جاء جمعًا؛ لأنهُ لا تلزمُ المطابقةُ بين التمييز والمميَّز عند أمْنِ اللَّبْس، بخلاف المطابقة بين المبتدأ والخبر والصفةِ والموصوف والحالِ وصاحبه، فإنها لازمة، وعدِّيتْ (طِبْنَ) بـ(عن) لتضمنها معنى التجافي والتباعد، ليشير إلى شح النفس بالعطاء عادةً، وأصلها أن تتعدَّى بالباء، كما في قول القائل: وما كان نفسًا بالفراقِ تطيبُ.