المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (217)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (217)
(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)[النساء:5-6].
(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) الخطابُ كالذي قبلهُ، لكلِّ مَن يتأتّى منه الخطاب، فيعمّ كلَّ مَن في يدهِ مالٌ للمحْجُور، و(السُّفَهَآء) جمع سفيهٍ مِن السَّفَهِ، وهو فقْدُ القدرةِ على حُسنِ التصرفِ في المالِ، بما يعرضُه للإهدارِ والضياعِ، فيعمّ كلّ من اتصفَ بهذه الصفة، ووقعَ عليه الحجر، ويدخل فيهم اليتامى، الذين تقدم ذكرهم في قوله: (وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)؛ لأنهم لا يحسنون التصرف، فالإيتاء المأمور به في الآية الأولى: (وَءَاتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) إيتاءُ حفظٍ ورعاية، أي احفظوا لليتامى أموالهم، والإيتاءُ المنهيُّ عنه حالَ السفهِ في قوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ) إيتاءُ تمكينٍ، أي: لا تمكِّنوا السفهاءَ مِن أموالهم فيضيعُوها (أَمْوَالَكُمُ) أضيفت الأموال لضمير المخاطبين، وهي في الواقع أموال المحاجير؛ إشعارًا للأولياء بأنها بمنزلة أموالهم؛ ليكون حرصهم على صيانتها كحرصهم على مالهم، أو أن إضافة المال إلى عامة المخاطبين؛ للإشارة إلى أن المال، وإن كان لمن تمَلَّكَه اختصاصٌ به، وحرمةٌ تمنع التعدّيَ عليه، فإنّ نفعَهُ يعودُ إلى الأمة كلّها، فبتداوُلِهِ في أيدِي الناس، وتنقُّلِه وتبادلِ منافعِه، وحسنِ تدبيرِه، تنتعشُ به حياةُ الناس جميعًا، ويستقيمُ أمرُ معاشهم، فهو مِن هذه الجهةِ مالُ الناس جميعًا، ولذلك أضيفَ إلى الكافّة (أَمْوَالَكُمُ)، ووصفت الأموال بقوله: (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) أي تقومُ بها الحياةُ والمعاش.
(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ) الضمير (فِيهَا) عائد إلى الأموال، ولم يقل منها؛ لأنه يشعر بأن الإنفاق يكون منها، فينقصها بالنفقة، بخلاف (فِيهَا) التي للظرفية، فإنها تشعر بأنّ النفقةَ في داخل المالِ من ربحه؛ وفيه حثٌّ لهم على تنميةِ مال اليتيم، كما قال عمر رضي الله عنه: (اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لاَ تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ)([1]) أي: اجعَلُوا نفقَتَهم وكسوَتَهم في هذا المالِ، الذي تحفظونَهُ لهم وتنَمّونَه لهم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) المعروف: الصفة الملائمةُ للغرض والحاجة، خلافُ المنكَر، الذي هو القبيحُ المنافِرُ للغرضِ والحاجة، وهو ما يعرفُ بالمفسدةِ والمصلحة، وقد يُدرك كل منهما بالعقل، وقد يُدرك بالشرع، والمعتبر منهما إذا تعارضَا هو ما يدرك بالشرع، وهو معنى قولهم: الحسنُ ما حسنَهُ الشرعُ، والقبيحُ ما قبحَهُ الشرعُ، على فهم المذهبِ الحق، والمقصود منه ما يترتبُ عليهما مِن المدحِ والذمّ عاجلًا، والثوابِ والعقابِ آجِلًا.
والعامّة اليومَ ينزلون المفسدة والمصلحة على مذهبِ أهلِ الاعتزالِ، فيرَتِّبونَ على المفسدةِ والمصلحةِ ـ التي تدركُها عقولُهم ـ حكمًا شرعيًّا؛ مدحًا وذمًّا، وثوابًا وعقابًا، وهو مِن اتباعِ الهوى، والقولِ على الله بغير علم.
والمعروفُ المأمور به في الآيةِ هو حُسنُ القولِ للمحجور، عقبَ الأمر بالإنفاقِ عليه؛ لأنّ الإنفاق قد يسوءُ معه الخلقُ من الوليّ، فإن النفسَ يثقلُ عليها إخراجُ المال، حتى لو كانَ بحقّهِ، وصاحبُ الحق هنا ضعيفٌ يتيمٌ، أو سفيهٌ معرّضٌ للإذلالِ، والمنّ عليه بمالِهِ، وتقريعِهِ به، والقولُ المعروفُ السالمُ من الأذى، هو كلُّ ما فيه مصلحةُ المحجورِ، حتى لو كان ثقيلًا عليه.
(وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ) أصل الابتلاء: الاختبار لمعرفة حقيقة ما يختبر، وهو هنا معرفةُ قدرةِ المحجورِ على حفظِ ماله، وحسن تدبيرِ شؤونه، والخطابُ للأولياء، أُمروا باختبارِ المحاجيرِ وقت الحجر عليهم، بتركهم يتصرفونَ في بعضِ أموالهم المرةَ بعد المرة، ومراقبتهم عنْ قُرب؛ ليتبين مدى حسن إدارتهم لأموالهم، واختبار الأنثى يكون بإسناد شيء إليها مِن مهامّها، وعلى رأسها ما يتعلق بشؤونِ البيت، وجملة (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى) معطوفة على قوله: (وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ)، وأعيد الاسم الظاهر (الْيَتَامَى) بدل ضميرهم (ابْتَلُوهُمْ) لبعد الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه؛ دفعًا للإيهام وللّبس، والمحاجير المطلوب اختبارهم لإيناس الرشد منهم سفهاء، ومنهم يتامى صغار، وقد تقدم خطابهم بلفظ: (السُّفَهَآء) في النهي عن إعطائهم أموالهم، وهو لفظ يعم النوعين: الصغار، والسفهاء الكبار، وعند الاختبار لدفع المال إليهم خُصّ أحد النوعين، وهم اليتامى الصغار؛ لأن السفه لا يناسبه إيناس الرشد، لأنه ضدّ، فاستغني عنه باليتامى، والحكم واحدٌ.
(حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) حتى: للغاية، أي يستمر هذا الاختبار إلى وقت بلوغ الحلم، ووقت البلوغ يبدأ منه دفع أموالهم إليهم، لا قبله، فما قبل البلوغ هو للاختبار، وما بعده صالح لدفع المال إليهم، فـ(حتى) في قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا) للابتداء، أي ابتداء الدفع يكون بالبلوغ، لكن بشرط إيناس الرشد المذكور في قوله: (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا) فالإيناس الذي هو شرطٌ للدفع، مرتبٌ على الابتلاءِ الذي يستمرّ إلى البلوغ، فدفع المال متوقفٌ على شرطين: البلوغ، وإيناس الرشد، فالرشد لا يتحققُ إلّا بعد الاختبار والبلوغ، وهو ما أفادهُ ذكر الشرط (إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) قبل الرشد بدون عطف في قوله: (إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) أي: إذا بلغُوا راشدينَ فادفعوا([2]).
ونسب البلوغ إلى النكاح؛ لأنه ببلوغ الحلم تكون الحاجة إلى النكاحِ والرغبةُ فيه، وقوله: (آنَسْتُم) أصل الإيناس النظر من بُعد، مع وضع اليد فوق العين، ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا)([3])، وهو كناية عن أول مراحل العلم، وفي التعبير به ما يشعر بالمبادرة إلى دفع المال عند أول العلم بالرشد، دون بطءٍ ولا مماطلة، والرشد: صلاحُ الدين وحسنُ تدبير المال، أي أول علمكُم عند بلوغهم برشدهم، وقدرتهم على الاعتماد على أنفسهم في حفظ أموالهم، وتدبير شؤونهم؛ ادفعوا إليهم أموالهم دونَ تسويفٍ، ومفهوم الشرط (فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا) أنهم إذا بلغوا غير راشدين، لا تسلم لهم، ولو طال الأمر بعد البلوغ، إذا لم يحصل رشد؛ لأن علةَ الحجر – وهي السفه – باقيةٌ، فلا عبرة بالسِّنّ، وأُضيفت الأموال إليهم بعد الرشد في قوله: (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)؛ لأنهم صاروا مؤتمنين عليها.
[1]) الموطأ:588.
[2]) جملة (فإن آنستم) قرنت فيها (إِنْ) الشرطية بالفاء؛ لتكون جوابًا للشرطِ الأول: (إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ)، وليكونَ اقترانُ الثانية بالفاء إيماءً إلى أنّ (إذَا) شرطية، وليست متمحضةً للظرفية، فإنّ إذَا الظرفية لا يحتاج جوابها إلى الفاء.
[3]) القصص:29.