المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (222)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (222)
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[النساء:15-17].
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ) اللَّاتِي: اسم موصول لجمع الإناث مبتدأ، يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ: يفعلْنَها ويواقعْنَها، والفاحشةُ تطلق على كلِّ أمرٍ شنيعٍ قبيحٍ، وغلبَ إطلاقها على الزنا؛ لشناعته وقبحه (مِن نِّسَائِكُمْ) هنّ مطلقُ الإناث من نساء المؤمنين، لا خصوص الزوجات، فالإضافة في (نِسائكُم) لأدنى ملابسةٍ، وجملة (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ) واقعة خبرًا، وهي دالة على جواب الموصول (اللَّاتي)؛ لشبهه بالشرط، وليست جوابه، والتقدير: واللاتي يفعلنَ الفاحشةَ من نساء المؤمنين، فأمسكوهن في البيوت، واحبسوهن، إن ثبتت عليهن الفاحشة؛ عقوبةً لهنّ.
وضمير (فَاسْتَشْهِدُوا) يعود على مَن يهمهم الأمرُ مِن الأزواج وأولياء الأمور، والسين والتاء للطلب، أي اطلبوا ممن رماهن بالفاحشة أربعة شهداء عُدول، يشهدون عليهن، كالشهادة المطلوبة في إثبات الزنا (فَإِن شَهِدُواْ) وثبتت الفاحشة (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) والخطاب في (فَأَمْسِكُوهُنَّ) لأولياء الأمور والقضاة؛ لأنهم المعنيون بتنفيذ الأحكام، والبيوت هي البيوتُ المعدة للحبس، ولتنفيذ العقوبات، لا بيوت السكنى، فلا يخرجْن من الحبس (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) أي حبسُهن دائم مدى الحياة إلى الوفاة، فتَوَفّي الشيء: تَقاضِيهِ وقبضه شيئًا فشيئًا إلى تمامه، وهو تمام الأجل، والفاعل الحقيقي الذي يتقاضَى الأجلَ هو ملكُ الموت، وأسند التقاضِي إلى الموت، وهو الأثرُ الناتج عن فعلِ الفاعل، مبالغةً في تحققِ حدوثه، حتى كأن الموت يميتُ نفسه، كما في: جَدَّ جَدُّهُ، أي جدُّ الجادِّ، وكما في جاد عطاؤُه، فجعل العطاءُ نفسُه كأنه يجود لكثرته، وهذا الحكمُ بحبس من يأتي الفاحشة من النساء في البيوت إلى الوفاةِ كان في أول الأمر، وفي قوله (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) إشارة إلى أن هذا الحكم في حقهنَّ سيتغير، وليس ثابتًا، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا؛ الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ والرَّجْمُ)([1])، أي: حكمُ البكرِ من النساء والرجال الجلدُ والتغريبُ، وحكم الثيب من الرجال والنساء جلدُ مائةٍ والرجم.
(وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) (فَآذُوهُمَا) من الأذى، وهو عقوبة تأديبية، تكون بالفعل كالضرب غير المبرح، وبالقول الشديد؛ كالتقريع، والتوبيخ، وغليظ الكلام، و(اللَّذَانِ) مثنى (الذي) الصنفان مِن الرجال، مَن أحصن منهم ومَن لم يحصن، وقيل (اللذان) يشمل الرجال والنساء، والتذكيرُ فيهما على جهة التغليب، وعلى هذا تكون للنساء عقوبتان: الحبس، والأذى بالتوبيخ، وعلى الأول – وهو الأوجه – تكون لكل منهما عقوبةٌ، للنساء عقوبةُ الحبس، وللرجال عقوبةُ الأذى والتوبيخ، والآيتانِ في حقِّ الرجال والنساء نُسِخَتَا كما يأتي (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) الإعراضُ عنهما عند التوبة تركُ أذاهما والإغضاءُ عنهما، وقد كانت عقوبةُ الزنا في أول الأمر أن تحبسَ النساء، ويعاقبَ الرجالُ بالأذى كالضربِ والتوبيخِ، مَن أحصن ومَن لم يحصنْ، ثم نسخ الحكم في حقهما بالجلدِ، في قول الله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ)([2])، فكان عامًّا في الرجال والنساء، والبكرِ والثيب، ثم جاءتِ السنّة بالرجمِ للمحصن منهما، وهو المتزوجُ بعقدٍ صحيح، حصل معه دخولٌ كاملٌ، وبقيَ البِكرُ على الجلدِ بآيةِ النورِ، فقد أمرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم برجمِ ماعز والغامدية، حين اعترفَا عنده بالزنا([3])، وقال في حديث العسيف([4]): (وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)([5])، فكانت سنةً أجمعَ الصحابةُ عليها، فالرجم ثابتٌ بالسنة الصحيحةِ والإجماعِ، ولذلكَ قال بهِ حتى مَن لَا يرَى نسخَ السنةِ بالقرآنِ كالشافعي، ومَن يرى أن الزيادة على القرآن نسخٌ كأبي حنيفة؛ لأنّ دليلَه عندهم إجماعُ الصحابة، وكان هذا هو السبيل الذي جعلَه الله لهما كما تقدمَ، وعامةئُ أهلِ العلمِ أنه لا يُجمعُ بين الجلدِ والرجم؛ لأن من رُجم على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم لم يجلَدوا ، واتفقوا أنه لا تغرّبُ النساء؛ لأنّ تغريبَ المرأة تضييعٌ لها، واختلَفوا في تغريبِ الرجل.
(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) (إِنَّمَا) أداةُ حصر، ومعنى التوبةِ في الآية قَبولها، أي: إنما قَبولُ التوبة، و(عَلَى) في قوله (عَلَى اللهِ) للاستعلاء، تفيدُ التمكنَ والإلزام، أي أنّ قَبول التوبة من الله متأكدٌ ومتحققٌ، حتى كأنه ألزمَ به نفسَه، والله تعالى لا يجبُ عليه شيء، وإنما هو بمقتضى وعده وكلامِه (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) السيئات والإساءة (بِجَهَالَةٍ) الجهالة: السَّفَه، والعَداوةُ، وظلمُ النّفس، وارتكابُ ما لا يَليق، ومنه قولُ عَمرو بنِ كلثوم:
ألاَ لاَ يَجْهَلْنَ أَحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينا
والباء فيها للملابسة، أي إنّما قَبول التوبةِ مِن اللهِ للذين يعملونَ السوءَ متلبِّسينَ بالسفهِ ومصاحبينَ له، والوصفُ الجهالةُ وصفٌ كاشفٌ؛ لبيان واقعِ الحالِ، لا مفهوَم له، فكلّ مَن يعملُ سوءًا هو في الواقع يعملُه عن سَفَهٍ وجهالةٍ وظلمٍ لنفسه، ودلَّت أداة الحصر (إنَّما) على أنّ قَبولَ التوبةِ مشروطٌ بقيدينِ: أنْ يكون السوءُ معمولًا بجهالةٍ، وأن تكونَ التوبة منه مِن قريب، وقد علِمْنا أن القيدَ الأول (بِجَهَالَةٍ) لا مفهوم له، وبقيَ الشرطُ الآخرُ، وهو قوله: (مِن قَرِيبٍ) أي مِن وقتٍ قريبٍ مسارعينَ إلى التوبةِ، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)([6])، وكلّ مَن تابَ قبلَ اليأسِ مِن الحياة فقد تابَ من قريبٍ، فإنّ عمرَ الإنسان قريبٌ قليلٌ، بل الدنيا كلّها متاعٌ قليلٌ، وكلّما كان العبدُ أسرعَ إلى التوبة بعد الذنبِ كان أقربَ إلى رضوانِ اللهِ وغُفرانه، فقوله: (مِن قَرِيبٍ) الذي هوَ شرطٌ في التوبةِ معناه: أنْ تكونَ التوبةُ قبل حضورِ الموتِ والغرغرةِ، فإنّ مَن وصلَ حاله إلى الغرغرةِ لا تُقبلُ منه توبةٌ، ولا ينفعُ نفسًا إيمانها لم تكنْ آمنتْ من قبل؛ لأنّها توبةُ المضطّر، ولا يترتبُ عليها أي عملٍ نافعٍ للإنسان، لا لنفسِهِ ولا لغيره، ولا عملٍ بالشريعة، والمعنى: إنما الشأنُ في التوبة مِن الذنوب أن تكونَ ممن سفهَ نفسَه، وتجرأَ على محارمِ الله، ولم يبالِ بها، فاللهُ يقبلُها، ويتجاوزُ عن سفَه الجاهلين، وطيشِ الغافلين، بشرطِ أن تكونَ التوبة من قريب، قبل فواتِ الأوان وحضورِ الموت، أو قيام الساعة (وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) عليمًا بصدق مَن تاب، حكيمًا يكافئُ كل أحدٍ بما يستحقّ.
[1]) ابن ماجه:2550.
[2]) النور:2.
[3]) البخاري: 2583، أبوداود:4440.
[4]) العسيف: الأجير.
[5]) البخاري: 1217.
[6]) الأعراف:201.