المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (229)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
– الحلقة (229)
(إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[النساء:31-32].
(كَبَائِرَ) جمع كبيرة، و(سَيِّئَاتِكُمْ) جمع سيئة، وهي منصرفةٌ للصغائر؛ لأنها ذكرت في مقابلة الكبائر، وتغفرُ باجتنابها، فدلت الآية على أن الذنوبَ كبائرُ وصغائرُ، ووُصفت الكبائرُ في آيةٍ أخرى بالإثم والفواحش، والصغائرُ باللَّمَم، واللَّمَم ما يكثر وقوعُه والإلمامُ به، وأكبر الكبائر الشركُ بالله، وأصغرُ اللَّمَم حديثُ النفسِ، إذا صحبهُ عزمٌ وتصميمٌ دون فعل، وضابطُ الكبيرة: ما وردت فيه عقوبةٌ بحدّ؛ كالسرقةِ، والحرابة، والقذفِ، والزنا، أو وعيدٌ يخصّها؛ كالغلول، والتعدي على المال العام، وكالسجَّانينَ الّذين يسجنون الناس ظلمًا، ويعذبونَهم بالسياط، والكاسيات العاريات المتبرجات، وظلم الأرحام وقطعها، وعقوقِ الوالدين، أو لعنةُ أصحابِها؛ كالراشي والمرتشي، والمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهاتِ من النساء بالرجال، ومِن أهل العلم مَن جعل ضابطًا عامًّا للكبيرة، وهي كل معصية تدل على أن مرتكبَها غيرُ مُبالٍ بمحارمِ الله.
ويترتبُ على معرفة الكبيرة أحكام تكليفية، منها: فسقُ المجاهر بها، وجوازُ هجره، وسلب عدالته، وعزله إن كان قاضيًا، أو مولًّى في منصبٍ له نفوذٌ وولاية، وذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أكبرَ الكبائر، وسماها السبعَ الموبقات، وهي: (الإشراكُ بالله، وقتلُ النفس التي حرم الله، وقذفُ المحصَنة، وأكلُ مال اليتيم، والربا، والفرارُ من الزحف، وعقوقُ الوالدين)([1])، وفي بعضِ الرواياتِ: السِّحْر بدل العقوق، وفي بعضها: السحر، والعقوق، وقول الزُّور([2]).
وليست هذه كلّ الكبائر، بل هذه أشنعُها، ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الكبائرُ إلى سبعمائة أقربُ منها إلى سبعٍ)([3])، ودلت الآية كذلك على أنّ تجنبَ الكبائرِ والحذرَ منها مكفرٌ لصغائر الذنوب، وأنه سببٌ لدخول الجنةِ، ومرضاةِ الله، وهذا هو المدخلُ الكريم في قوله (وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا)([4]) والكريم: النفيسُ الذي تحبه النفوسُ، وتفرحُ وترتاحُ إليه.
(ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) نهيٌ معطوفٌ على المنهيات المتقدمة، مِن أكل المال بالباطل، وقتل النفس، وهو يدلُّ على تحريم تمنِّي ما عند الغير، عن أم سلمة أنها قالت: “يَا رَسُولَ اللهِ، يَغْزُو الرِّجَالُ، وَلَا نَغْزُو، وَلَنَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: (ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)”([5])، وما تمنته أم سلمة منهيٌّ عنه؛ لدخوله فيما نزلت الآية للردِّ عليه، ولأنه طلبُ ما قدّر الله خلافه، بحسب الاستعداد الخِلقي للرجال والنساء، ولذا قال بعده: (وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ)([6]).
والتمني في اللغة: هو طلبُ ما لا طمعَ فيه، كقول الشاعر: ألا ليتَ الشبابَ يعود يومًا، أو طلب ما فيه عسر يحتاج إلى سعيٍ وكدّ طويلٍ، وقد يتحقق وقد لا يتحقق، كقولك: ليتني أكون مثل الشافعي في العلم والفضائل، وأَداتُه في العربيةِ ليتَ، وتمنِّي ما يتعلقُ بالآخرة، كتمنّي الشهادة في سبيل الله، أو تمنِّي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، لا حرجَ فيه، ما لم يردْ عنه نهيٌ في الشرع، كمَن اعتدى في الدعاءِ، وتمنَّى أن يعطيَه اللهُ القصرَ الأبيض على يمينِ الجنة.
وتمنِّي متاع الدنيا، إذا كان مصحوبًا بسلبه عن الغير، سواء مع تمنّي تحوله للمتمني أو بدونه؛ فهو محرّمٌ، وهو الحسد، وأما أن يتمنّى أحدٌ أن يكون له مثل ما عند فلان، مما هو مشروع كالمال الحلال أو العلم النافع، فلا حرج فيه؛ لأنه داخل في قوله (وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) ويسمى الغبطة، وفي البخاري: “باب تمني الشهادة في سبيل الله([7])، وباب الاغتباط في العلم والحكمة، وذكر حديث: (لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)([8])، والذي ذكره الحديث في قوله: (لَا حسدَ …) صورتُه صورة الحسد، وليس بحسدٍ حقيقةً، وإنما هو غبطة، فتسميته بالحسدِ على التجوُّز، بمعنى: إن كانَ هناك حسدٌ محمودٌ فهو في شيئين.
وتمني ما هو من قبيل الغبطة إنما يكون محمودًا مع السعي، وأخذِ الأسباب في تحصيله، أما تمنيه دون سعيٍ، فهو تفريطٌ مذمومٌ وبطالة.
والبطالةُ مع التمني المحرم بزوال النعمة عن الغير أشدّ ذمًّا؛ لأنه – مع الإثم الذي يعود على صاحبه – لا يقدمُ ولا يؤخرُ، ولا يغني فتيلًا، فإن الله تعالى قسمَ الأملاك والأرزاق، ويسَّر كل أحد لما خلقَ له، فوفّاه كسبَه، وأعطاه أجرَه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعمَلُوا، فكلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلق له).
(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) كلٌّ وفّاه عمله وجهده، ولم يبخسْه حقَّه، وحرَّمَ اللهُ تمنّيَ ما عند الغير؛ لما يؤدِّي إليه من فسادِ ذاتِ البين، والعداوة والبغضاء، ولذلك سدتِ الشريعةُ أبوابه، وقطعت ذرائعَه، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعَ الرجلُ على بيع أخيه، ويخطبَ على خطبته، ونهى المرأةَ أن تسألَ طلاقَ أختها؛ لتستفرغَ صحفتها([9]).
(وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ) فمَن أراد شيئًا يرى أنه حُرِمه، فليسألْ ربه الذي لا تنفدُ خزائنُه، ولا يمنعُ فضله (إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) عليم مطلعٌ على صدقِ مَن توجّه إليه مع سعيه، وتوكل عليه، فأعطاه أجرَ سعيه، وبمَن فرطَ في ذلكَ، فاستحقّ حرمانَ الله.
[1]) جاء في المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم لأبي نعيم، من حديث أنس بن مالك قال: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَبَائِر، أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ، فَقَالَ: (الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَالَ: أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالَ: قَوْلُ الزُّورِ، أَوْ قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ) رقم الحديث:261، 1/165.
[2]) البخاري:6857،مسلم:175.
[3]) مصنف عبد الرزاق:19702، وشعب الإيمان للبيهقي:290.
[4]) (مَدْخَلًا) قرئ بالفتح، اسم مكان، أي ندخلكم مكانًا كريمًا، أو مصدرٌ ميمي؛ ندخلكم دخولًا، ونَصب المصدر الثلاثي من فعله الرباعي سائغٌ، كقوله تعالى: (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا)، وقوله: (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا)، وعلى قراءة (مُدْخَلًا) بالضم، يصح أن يكون أيضًا مصدرًا مِن أَدخل، أي نُدخلكم إِدخالًا كريمًا، أو اسمَ مكان منصوبًا على الظرف، أو المفعول به.
[5]) أخرجه أحمد في مسنده: 26736، وقوله: فَأَنْزَلَ اللهُ: …، مرسلٌ من كلام مجاهد.
[6]) النساء: 32.
[7]) البخاري: 4/17.
[8]) البخاري:7141.
[9]) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t، قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَلاَ تَنَاجَشُوا، وَلاَ يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلاَ يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَلاَ تَسْأَلُ المَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا؛ لِتَكْفَأَ مَا فِي إِنَائِهَا) البخاري:2140.