المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (24)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني.
الحلقة (24).
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) [البقرة:26].
لمّا تحدَّى الله تعالَى قريشًا، وعجز المشركونَ والمنافقونَ أن يأتوا بسورة مِن مِثل القرآن؛ في نظمه وفصاحتِه وبلاغتِه، تحوَّلوا – مكابرةً – إلى الطعنِ في مضمونِه ومدلولِه، فاستعظَموا – حسبَ زعمِهم – أن يضربَ الله تعالَى الأمثالَ، ويذكرَ البعوضةَ في القرآنِ، وقالوا: مَا يُشبهُ هذا كلام اللهِ.
ولم يُلجئهم إلى هذا القول العجيبِ سوى المكابرة والعناد، فإنّهم عرفوا الأمثالَ التي جاء بها القرآن، وتكلّموا في بلاغتهم وكلامهم الفصيحِ بها، فقالوا: “أَجْرَأُ مِن ذُبابةٍ، وأضعفُ مِن بعوضَةٍ”، فلما أنكروا ما عرفوه؛ نَاسَبَ أن يكونَ الردُّ عليهم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).
وقد جاءَ في سبب نزول الآية؛ أنّ الله تعالى لمَّا ذكرَ البعوضَ والذبابَ والعنكبوتَ في كتابِه، وسمعَ المشركون والمنافقون قولَ اللهِ تعالى: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْه)[1]، وقوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا)[2]؛ ضحكُوا وقالوا: ما يُشبه أن يكونَ هذا كلام اللهِ، وأيّ شيءٍ يصنعُ بهذَا، فأنزلَ الله الآية.
ولا عجبَ أنْ يتعاونَ الفريقانِ على التقوّلِ في القرآنِ والطعنِ فيه، فإنه تَحدَّاهم مجتمعينَ أن يأتُوا بمثلِه، (ولو كانَ بعضُهم لبعضٍ ظهيرًا)[3].
(يَسْتَحْيِي) أصلُ الاستحياءِ: استقباحُ فعلِ الشيءِ لنقصٍ فيه، وهو محالٌ على الله تعالَى، والمعنَى: إنّ الله لا يمتنعُ عن ذكرِ المثلِ الذي يريده، وليس ضربُ المثلِ بالبعوض ممّا يمتنعُ أن يمثلَ بهِ (أنْ يَضرِبَ) يَجْعل ويَضَع (مَثلًا) مشابِهًا، وهو مفعولٌ به ليضرب، وتنكيرُه للتنويعِ (مَا) نكرةٌ مبهمةٌ، لتأكيدِ تنويعِ مَا قَبلَها (بَعُوضَةً) عطفُ بيانٍ، أو بدلٌ مِن (مثَلًا)، وهي واحدةُ البعوضِ، حشرةٌ تطيرُ، غايةٌ في الصغرِ، مؤذِيَةٌ، وناقلةٌ للأمراضِ، يُضربُ بِها المَثلُ في الحقارةِ والضّعف، فيُقال: “أَضعفُ مِن بعوضَة”.
(فَمَا فوقَها) ضربُ المثَلِ بالبعوضَةِ، وبِما فوقَها فِي الصغرِ أو الكبرِ؛ ليسَ مما يُستَحَى منْه، ولا ممّا يمتنعُ الله تعالَى عن ذِكرِه، أي: يشتركُ فيما يُضربُ بهِ المثلُ؛ البعوضةُ وما هو فوقَهَا في الصغر، كالذَّرَّة، وما لَا يُرى مِن المخلوقاتِ إلّا بالمجهرِ، كما تقولُ: فلانٌ قصيرٌ وفوقَ القصيرِ، أي: غايةٌ فِي القِصَر.
وكذلك ما هو فوقَها في الكبر، أي أعظم منها، كالذبابةِ والعنكبوتِ والحمارِ، كما تقول: فلانٌ كبيرٌ، وفوقَ الكبيرِ، أي: طاعنٌ في العمر، فالفوقيةُ في قوله: (فَوقَهَا) اسمٌ مبهمٌ، تصلحُ للصعودِ وللنزولِ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إِلاَّ كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ)[4]، فمعنى (شوكة فما فوقها): فوقَها في خفة الوخز؛ كنخسة النملة، أو فوقها في الشدةِ والقوة؛ كلسعة الزنبور.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ) الفاء عاطفةٌ تفصيليةٌ للجملةِ المتقدمة بعد الإجمالِ السابقِ، و(أمّا) حرفُ شرطٍ وتفصيلٍ، يؤتَى بها عندمَا يُرادُ مزيدُ عنايةٍ بالكلامِ، وتنبيهُ السامعِ لِما يُلقى إليه، ولمّا كانَ فيها معنى الشرط، الذي يقتضِي ملازمَة الشرطِ للجزَاء، جاءت الفاء في جوابِها (فيعلمون)، وفعلُ الشرطِ محذوفٌ، تقديرُه: مهما يكن من أمر فالذين ءامنوا يعلمون، والتعبيرُ عن المؤمنين بالفعلِ (آمَنُوا)، يدلُّ على أنّ مَن اتصفَ بأصل الإيمانِ، حصلَ له تمييزُ الحقِّ والعلمُ به، ومِن باب أولَى حصولُه لمَن حققَ كاملَ الإيمانِ (أَنَّهُ الْحَقُّ) الضمير في (أنه) يعود على المَثَل، والحقُّ: ما لَهُ فائدةٌ ومنفعةٌ شرعيةٌ مقصودةٌ، ضدّ الباطلِ والكذبِ، ولابدَّ أن يكونَ ثابتًا بدليلٍ شرعيٍّ (مِن رَبِّهِم) حالٌ مِن الحق، و(مِن) للابتداءِ، أي: هو حقٌّ مرسلٌ مِن ربهم، وصادرٌ عنه، أخبرَهم به في كتابِه، الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بينِ يديه ولا مِن خلفِه، وجاءَ باسمِ الربوبية؛ للتنبيهِ على أن مَا أتَاهم هو مِن المُنعِم، المُصلحِ لأمرِهِم، الذي يرعاهم، ويسهلُ لهم الوصولَ إلى معرفةِ الحقّ، بمَا نصبَ لهُم مِن الأدلَّة عليه.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) المشركون واليهودُ علموا أنّ ضرْبَ المثلِ في لغةِ العربِ ـ التي خَبرُوا ضُروبَ بيانِها ومعانِيها ـ هو مِن الفصاحةِ والبيانِ، لكنهمْ مكابرةً قالوا: (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا)؛ أيّ شيءٍ أرادَ اللهُ بهذَا؟ وما الذي قصده بهذا؟
و(مَاذَا) مركّبةٌ مِن (مَا) الاستفهامية و(ذَا) للإشارةِ، أو هي بمعنى (الذي) موصولة، أي: مَا الذي أرادَه اللهُ مِن ضربِ المثلِ بالبعوضة؟ وهو استفهامٌ أرادُوا به الإنكارَ، والتقليلَ مِن شأنِ ضربِ المثلِ وفائدته، وذلك مِن غفلتِهم وعنادهم، وإلّا فهم قد استعملوا المثلَ في كلامِهم، وضربُوه بالذبابِ، وبِما هو أصغرُ منه وأكبرُ؛ كما تقدم، وكما في قولهم: أهدَى مِن القَطَا، وأضَلُّ مِن الغُرابِ، وأحقرُ من ذبابة.
والإشارة في قوله: (بِهَذَا) إلى المثل، وأرادُوا باستعمالِ اسم الإشارةِ التقليلَ والتهوينَ مِن شأنِ كلامِ الله تعالى، في ضربِ الأمثالِ، فذلك مِن أغراضِ استعمالِ الإشارَةِ؛ كما قال تعالى عمّن قبلهم: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ)[5]، و(مَثَلًا) نصب على التمييزِ، في معنَى الحالِ.
[1] [الحج:73].
[2] [العنكبوت:41].
[3] [الإسراء:88].
[4] [مسلم:4664].
[5] [الأنبياء:36].