المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (245)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (245)
[سورة النساء:75-77]
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)[النساء:75].
((وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)([1]) أيُّ شيء طرأَ لكم، حالَ كونكم غيرَ مقاتلينَ في سبيلِ الله؟ وسبيل الله: إعلاءُ كلمتهِ ونصرةُ دينه، والاستفهام في معنى الأمر والحثّ على الجهاد، و(الْمُسْتَضْعَفِينَ) معطوف على سبيل الله، أي في سبيل الله، ونصرة المستضعفين، الذين استضعفهم الناس واطَّهدُوهم وقهَرُوهم، فالسين والتاء للمبالغة، و(الْوِلْدَانِ) جمع وَليدٍ ووَليدة: الصغارُ من الذكور والإناث، و(الْقَرْيَةِ) هي مكة، شرَّفها الله، وأسندَ الظلم إلى أهلها إسنادًا حقيقيًّا، وتُرك المجاز بنسبةِ الظلمِ إلى القريةِ، كما في الآيات الأخرى: (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)([2])، (وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَٰلِمَةٌ)([3])؛ ترك إسناد الظلمِ لمكة توقيرًا، وتشريفًا لها من نسبةِ الظلمِ إليها، ولو على المجازِ.
والآيةُ، وإن كانت فيمَن منعتْهم قريشٌ مِن الهجرةِ بسببِ اتفاقِ الحديبة، الذي ينصُّ على أن مَن أتى من مكة إلى المدينة مسلمًا يردونَه إلى قريشٍ، دون العكسِ؛ فإنها عامةٌ في ضعفاءِ المسلمين، الواقعِ عليهم قهرٌ وظلمٌ، لا يقدرونَ أن يُخلِّصوا أنفسَهم منه، كما يقعُ للطغاةِ والمستبدّين، وأذرعِهم الأمنية التي تحتجزُ الأبرياء، وتمنعهم مِن النجاةِ بأنفسهم؛ لتتخذَهم دروعًا بشرية، فالواجبُ على المسلمين نصرتُهم، وتخليصُهم، والدفاعُ عنهم، وذكر النساءِ والولدان الصغار؛ استنهاضًا للقادرين على نصرتهم، واستثارةً لحفيظتِهم بالوقوفِ معهم، والدفاعِ عنهم، والاجتهادِ في الدعاء لهم بتخليصهم.
(وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) هذا دعاءُ المستضعفين في مكة، وقد استجيبَ لهم بفتحِ مكةَ عليهم، فصار مَن كان فيها من المسلمينَ أعزاء، وانقلبتِ الأمورُ على عدوِّهم، فصارَ سجّانوهم هم الملاحقينَ المستضعَفين، مَنَّ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ)([4])، ففُتحت مكة، وصارتْ للمسلمين، وولَّى عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم عَتّاب بن أَسِيد رضي الله عنه([5])، وهو ابنُ ثماني عشرة سنة.
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[النساء:76].
(الَّذِينَ آمَنُوا) أعمالُهُم كلُّها للهِ (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) السبيلِ المستقيم، التي توصل إلى مرضاتِهِ، و(الَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) الباطلِ والشيطانِ، وعبادة الأصنام، فهم أولياءُ الشيطانِ وأعوانه (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَآءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ) بالتدبيرِ والمكرِ والفتنِ بين المسلمين (كَانَ ضَعِيفًا) مغلوبًا من المؤمنينَ، الذين وهبُوا أنفسَهم لنصرةِ اللهِ ودينهِ، وإقامة الحقّ والعدلِ بينَ خلقِهِ، فأثَرُ كيدِ الشيطانِ لا يساوي شيئًا، مقارنةً بمكرِ الله بالكافرينَ، فثِقُوا بالغلبةِ والنصرِ عليهم، مادامَ الله معكم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء:77].
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) قيلَ للمسلمينَ في مكةَ، قبلَ أن يؤذنَ لهم في الجهاد: كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ، لا تقاتلُوا عدوَّكم؛ لأنّ الوقتَ لم يحنْ بعدُ([6])، والخطابُ في الآية ـ وإن كان يصحُّ أن يرادَ به عامةُ المسلمين في ذلك الوقت ـ فالاستفهام التعجُّبيّ ممن ترددَ في القتلِ بعد أن أُمر به، مقصودٌ به المنافقونَ أو الأعراب ضعافُ الإيمان، الذين تمنَّوا القتال، ولما أُمروا به جَبُنُوا، وخافُوا لقاءَ العدوّ (إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ) (إذَا) هي الفُجائية، أي فاجئُوكم عند أمرِهم بالغزو بالانهزامِ والخوفِ من العدو، وكانوا يتظاهرونَ بالحرصِ على لقائهِ (وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ) المنافقونَ يقولونَ هذا بلسانِ المقالِ، وغيرهم من ضعافِ الإيمان يقولونه بلسانِ الحال.
فالآياتُ تبين أن المسلمين أُمروا قبل الإذنِ بالجهاد، بإقامة أركانِ الإسلامِ غيرِ الجهاد، أُمروا بالصلاةِ والزكاة، وكان منهم مَن يتمنى قتالَ العدو، قبل أن يؤذنَ لهم فيه، ثم بعدَ أن أذنَ لهم في الجهاد، وأُمروا بالخروج إلى الغزو، كانتِ المفاجأةُ أنّ فريقًا ممن كانوا يتمنون القتال فزعوا منه، وخافوهُ حين أُذن لهم فيه خوفًا شديدًا، أشدَّ مِن خوف المؤمنين من ربِّهم، وقالوا في إساءةِ أدب مع الله، بلسانِ المقال، أو بلسان الحال، وهو سبحانه لا يُسأل عما يفعل، قالوا: لِمَ كتبتَ علينا القتالَ الآن؟ (لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى وقتٍ آخر ليس بالبعيد؛ لنستعدَّ، ولمّا كان واقعُ أمرهم التسويفَ والكذبَ، وإخفاءَ حقيقة أنفسهم، وأنّ السببَ الحقيقيّ لامتناعهم هو الركونُ للدنيا ومتاعِها، وإيثارُ الراحة، رَدَّ الله عليهم بما عَلِمه منهم، لا بما أظهرُوهُ، فقال (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا) الذي آثرتموه على الآخرة بتركِ الجهادِ متاعٌ (قَلِيلٌ) لا يساوي شيئًا في مقابلِ ثواب الآخرةِ، الذي أعدَّه الله تعالى للمجاهدين، وأنكم ستُوفَّون أعمالَكم (وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) لا ينقص لكم من جزاء عملكم شيءٌ ثوابًا وعقابًا، لا قليلٌ ولا كثير، فراجعُوا أنفسَكم، فالفتيلُ يضربُ به المثلُ في القِلة، وأصلُه ما في شقِّ النواة.
[1]) ما للاستفهام الإنكاري مبتدأٌ، و(لَكُم) خبرٌ، و(لَا تُقَاتِلُونَ) جملة حالية.
[2]) الحج:45.
[3]) هود:102.
[4]) الطبراني في الكبير:7266.
[5]) الطبراني في الكبير:423.
[6]) والرؤية في قوله (أَلَمْ تَرَ) يصحُّ أن تكونَ بصريةً، ويصح أن تكونَ علميةً، ونزلت منزلةَ البصرية؛ لاشتهارِ ذلك اشتهارَ الرؤية.