المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (248)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (248)
[النساء:83-84]
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:83].
(وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) الضمير في (جَآءَهُمْ) إمَّا لضعاف الإيمان من الأعراب، وإمّا للمنافقين الذين تقدمَ ذكرُهم، ممن إذا كانوا في مجلسِ الرسول صلى الله عليه وسلم، يقولون: سمعًا وطاعة، فإذا ما خرجوا من عنده بيتُوا غير الذي يقولون (أَذَاعُواْ بِهِ) بثوه ونشروه، وكَشفُوا سره، وما يفعله المنافقونَ من نشر وإذاعة ما سمعوه في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ذمّه القرآن؛ لأنهم ما كانوا ينشرونه ليسمعه من فاته سماعه، لتعمّ به الفائدةُ، وينصلحَ به أمرُ الناس، وإنّما كانوا يقصدونَ إلى إذاعةِ ما يتعلق منه بأمنِ الدولةِ، والخوف من العدوّ، يذيعونهُ ويشيعونهُ على غير وجهه، بما يصحب إذاعتَهُم له مِن تفخيمِ ما يريدونَ تفخيمَهُ، وتهوينِ ما يريدونَ تهوينه، تأليبًا للعدوِّ، أو تثبيطًا وتخويفًا للمسلمين، ومَا يفعلُهُ ضعافُ الإيمانِ يفعلونَه غفلةً منهم، وانسياقًا وراء الإشاعاتِ، التي لا يدركونَ عواقبَها، فالفريقان كان إذا جاءَهم أمرٌ وسمعوا بشأنٍ من شؤون المسلمينَ، المتعلقِ بالأمن أو الخوفِ؛ نشروهُ وأذاعوهُ، وذلك مفسدةٌ عظيمةٌ.
(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) أولو الأمر: أصحابُ العلم والرأي، وكبارُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) الاستنباط أصله من النبَط: أولُ الماء يستخرجُ من البئر عند حفرها، وتُوسِّع فيه، فصارَ يطلق على مطلقِ استخراجِ الشيءِ من موردِه، والمرادُ: لَعَلِمَه مَن لهم من العلمِ والرأي ما يمكِّنُهم مِن استخراج حقيقةِ الخبر، ومعرفةِ دلالتهِ، دون تهويلٍ ولا تهوينٍ.
والكلامُ عمَّن تقدمَ ذكرُهم، ممن كان شغلهم الشاغل الأراجيف، وبثّ الإشاعاتِ، الذي هو دورُ الإعلام المعادِي في زماننا، كانوا إذَا تحصَّلُوا على أمرٍ لهُ علاقةٌ بأمنِ المسلمين مِن عدوِّهم، بالغوا فيه وضخَّموهُ، حتّى يأخذَ العدوُّ عدَّتَه، ويحشدَ قوتَه، ويحصلَ للمسلمين الارتخاءُ والاستهانةُ به؛ ليأخذَهم على غرّة، وإذا سمعُوا بخبرٍ يخيفُ المسلمين مِن عدوّهم، حملوهُ كذلك على غيرِ وجهه؛ ليصيبُوا المسلمينَ بالفزع، ويوهنُوا عزائمَهم، وأحيانًا يقومونَ هم أنفسُهم باختلاقِ تلك الأخبارِ، تمامًا كما يفعلُ إعلامُ العدوِّ اليوم، وكان الأجدرُ بهم ـ وهم يتظاهرونَ بالإيمانِ ـ أن يردُّوا مثلَ هذه الأخبارِ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى كبار أصحابِهِ العقلاء، وذوي العلم والرأي؛ ليضعوهَا موضعَها، ويحملُوها على وجهِها، وقد حملتِ الآيةُ في هذا المعنى على عدةِ وجوهٍ:
الأول: أنَّ ضعافَ الإيمان كانوا إذا سمعُوا من المنافقين خبرَ السرايا، أو أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم مما له علاقةٌ بالأمْن، والظفرِ بالعدوِّ أو الخوفِ منه، أذاعوها، وأعانوهم على أغراضِهم في نشرها؛ غفلةً منهم، وليس نفاقًا وعداءً للمسلمين وغدرًا بهم، كما يفعلُ المنافقون، والردُّ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الوجهِ، معناهُ أنه كان على مَن يذيعون الأخبارَ أن يستقُوا الأخبار المتعلقةَ بأمنهم وخوفهم من مصدرِها، الذي يعلمونَ صدقَه، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وكبار أصحابه، لا مِن أعدائهم، وما أشكلَ عليهم من ذلك والْتَبَس، كان عليهم أن يعلمُوا وجهَه، ويستنبطوا حقائقَه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكبار أصحابه، لا مِن غيرهم، ولو فعلوا لأخبروهم به على وجهه، وعلى هذا الوجهِ يكون الذين يستنبطونه، أي يطلبونَ حقيقة خبره، هم مَن أخذوا الخبرَ عن المنافقين، وأذاعُوهُ، وهم ضعافُ الإيمان، وتكونُ (مِن) في قوله (يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ابتدائيةً، أي: لعلموا استنباطَ الخبر وحقيقتَه من مصدرِه، مِن عند النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه.
الوجهُ الثاني مِن وجوهِ حمل الآية: أنه كانَ إذا وصلَ إلى المنافقين أو ضعافِ الإيمانِ خبرٌ عن سرايا المسلمين، في معاركهم مع الكفار، يوجبُ الخوفَ من العدوِّ، أو الظفرَ والنصر، أذاعُوه وأشاعوه، وقد كان عليهم – قبلَ أن يتكلمُوا به ويشيعوه – أن يردُّوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخبروهُ به، دونَ إذاعةٍ له، حتى يكونَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم هو الذي يستخرجُ أمرَه، ويعلمُ هل يبلغُ به المسلمينَ أو يسكتُ عنه؟ وما الذي يصلحُ منه أن ينشرَ وما لا يُنشر.
الوجه الثالث: أن يحملَ الأمر الذي جاءهم على أنهم إذا اطلعَ الفريقانِ من المنافقين، أو ضعاف الإيمان، على حالٍ من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم، سمعُوه من أعدائه، مما يوجبُ الخوفَ من العدو، والإعدادَ له، أو ما يوجبُ الأمنَ منهُ أذاعُوه، ومعنى ردّه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الوجهِ الإمساكُ عنه، وعدمُ التعرضِ له والخوض فيه، وكأنه غيرُ مسموعٍ؛ حفاظًا على أسرارِ الدولةِ وأمنِها، وهذانِ الوجهان ـ كما تقدم ـ يمكن حملهما على المنافقين، وعلى ضعافِ الإيمان، وعليهِ تكون (مِن) في قوله (يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) بيانيةً، أو تبعيضيةً، والذين يستنبطونه هم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكبارُ أصحابه، وأولو العقلِ والعلمِ.
والوجوه الثلاثة في حمل الآية كلُّها صحيحة.
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) لولا فضل الله عليكم ورحمته بالنصرة والتأييدِ، وبردّ كيدِ المنافقين في نحورهم، وفضحهم، وتكذيبِ ما يشيعونه، وتأييد الله لكم المرةَ بعدَ المرةِ عليهم؛ لفُتِنتُم، ولزلّتِ الأقدامُ، وكانَ للشيطانِ عليكم سبيلٌ، ولم ينجُ من افتتانه، ويصبرْ على دوامِ الابتلاء في الله، إلّا القليلُ، الذين بلَغُوا في الإيمان منزلةً استوتْ فيها لديهم السراءُ والضراءُ، وكذلكَ لولا رحمةُ الله بكم بإرسالِ الرسول وإنزالِ القرآن، لمَا اهتديتُم، ولمَا نجَا إلّا القليلُ، الذين وُفِّقُوا، وتركُوا عبادة الأصنام في الجاهلية قبل البعثة، أمثال ورقةَ بن نوفل، وزيد بن عمرو بن نفيل.
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا)[النساء:84].
أمرٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال، والنبيّ هو وليُّ الأمر والقدوة، فغيره مأمورٌ بالقتال مِن باب أولى، ووجّه الأمر إليه لأنّ بأمره ينقادُ غيره، وتسهلُ عليهم الاستجابة، وقد سبقَ أمر المؤمنين جميعًا بالقتال في قوله: (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ)([1])، وذكرتِ الآيةُ سببَ الأمر بالقتال، وهو رجاء أن يكف اللهُ بأسَ الكافرين، وقد كفَّ الله بأسَهم بفتح مكة، وفي ذكر الأمر المباشرِ للنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال، بعد كشفِ أمر المثبطينَ والمخذِّلين؛ إنهاضٌ للهِمم، ورفعٌ لمعنويات المجاهدين، وإشعارٌ بأن الأمر ماضٍ، وتسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وكأنّ القرآنَ يقول له: لا تكترثْ ولا تهتمَّ بتخذيلِ المنافقين، وتخلُّفِ القاعدين (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) على قراءة الرفع تكونُ لا نافية، وعلى الجزم تكونُ ناهية؛ لا تكلف إلّا فعلَ نفسك، وهو القتالُ بنفسك، وتحريضُ المؤمنين عليه، لا تكلّف فعلَ غيركَ، فمَن تخلفَ فإنما يتخلفُ على نفسِه، ومَن نكثَ فإنما ينكثُ عليها، وقُدّر إضمارُ المضاف في قوله (إِلَّا نَفْسَكَ) أي فعل نفسك؛ لأنَّ التكليفَ يتعلق بالأفعال لا بالذواتِ.
والمعنى: أنّ الله تعالى مؤيدك وناصرُك، ولا يكلفُك إلا فعلَ نفسك، فلا يكلفك أمرَ المعرضين، لست عليهم بمصيطرٍ، ما عليك إلا استنهاضُ هِمَم المؤمنين، وتحريضُهم على قتالِ عدوهم، فإن النصرَ من عندِ الله (عَسَى اللهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بأسَ عدوكَ، وعسى مِن الله تحقيق، وقد فعل اللهُ بهم ذلك، فكفَّ بأسَ الذين كفروا، وألقى في قلوبهم الرعبَ، وفتحَ مكة على المسلمين، ونصرهُ بالرعب مسيرة شهر (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْسًا) أشد قوةً ونكايةً في عدوكم، مهما بلغ عدده وعتادُه (وَأَشَدُّ تَنكِيلًا) تعذيبًا، فيذيقهم في الدنيا التعذيبَ بالقتلِ والهزيمةِ والأسرِ، ويجعلهم نكالًا وعبرةً لغيرهم، وفي الآخرةِ عذابَ النارِ، وأصلُ التنكيل: التعذيبُ بالنِّكْل، وهو القَيدُ، ثم استعملَ في كلِّ تعذيب.
[1]) النساء:74.