المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (252)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (252)
[النساء:93-94].(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)[النساء:93].
العمدُ في القتلِ المتوعَّد عليه: هو ما قُصد فيه الفعلُ والشخص معًا، بما يقتلُ المعصوم غالبًا؛ عُدوانًا لا لعبًا، ولا تأديبًا ممن يحقُّ له التأديبُ، أو دفاعًا عن النفسِ أو المالِ أو العرضِ (فَجَزَآؤُهُ) جواب الشرط (خَالِدًا) الخلودُ يطلقُ على التأبيد، ويطلقُ على البقاءِ الطويل، والوعيدُ بالجزاء المذكور للقاتل مُؤكَّدٌ بعدة مؤكِّداتٍ لفظيةٍ مترادفةٍ: النارُ والخلودُ فيها، وغضبُ الله على فاعله، ولعنتُه، وتَوعُّدُه بالعذابِ العظيم، كلُّ ذلك يدلُّ على مدى تعظيمِ حرمةِ النفس، فهي كما قال الله تعالى: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)([1])، ويدلُّ على أن التعدي عليها أعظم ما يرتكبُه المسلمُ من المعاصي، ولذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)([2]).
وما وردَ من الوعيد بالخلودِ في النار للقاتل، محمولٌ عند جمهورِ أهل العلم على أحدِ وجوهٍ ثلاثة؛ على التغليظ والترهيبِ من القتل، والتحذير منه، كما في قولِ النبي صلى الله عليه وسلم: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)([3])، أو على المُستحلِّ للقتل، فإنهُ باستحلاله يكونُ كافرًا، ويستحق التأبيدَ في النار والخلودَ فيها، أو على أن الخلودَ الوارد في الآية يرادُ به البقاءُ الطويل، لا التأبيد، ولغةُ العربِ لا تأباه، على حد قول الشاعر:
ولا خالدًا إلَّا الجبالَ الرَّواسِيا([4])
هذا هو الصحيحُ عند أهلِ العلم في تفسيرِ الآية، وذلك لأنَّ القاتلَ لا يَكفرُ بالقتل عند أهل السنة، وقواطعُ الأدلة في الشريعة تدلُّ على أنَّ مَن ماتَ مسلمًا دخلَ الجنة، ولا يُخلد في النار خلودَ تأبيد إلّا مَن ماتَ على الكفر، وما دامَ القاتلُ لا يَكونُ كافرًا بسبب القتل، فإنه إذا تابَ تُقبل توبتُه؛ لأنّ الله تبارك وتعالى يَقبل توبةَ الكافر إذا أسلمَ، فتوبةُ ما دونَ الكفر بالقَبولِ أوْلى، فتكونُ هذه الآيةُ، التي توعدتْ بالخلود واللعن والغضب والعذاب العظيم، مقيدةً بالآياتِ الأخرى، الواردةِ في قبولِ التوبة مِن القتل ومن غيرِه، قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ)([5])، وقال تعالى: (وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)([6]) إلى أن قال: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)([7]).
وهناك قولٌ مرويٌّ عن بعض السلفِ، بأنّ القاتلَ لا تقبلُ له توبة، ويُخلد في النار([8])؛ أخذًا بظاهر ما ورد من التغليظ على القاتل في الآية، والقول الأول أرجحُ منه؛ لما تقدم من الأدلّة على ذلك، وما روي في عدم قبول توبته عن ابنِ عباس مُؤولٌ، ومحمولٌ عنده على التغليظِ، كما صرحتْ بعضُ الروايات بذلك عنه.
وقد ورد في سَبَبَ نُزُولِ الْآيَة؛ أنّ مِقْيسَ بنَ صُبَابَة وأخاه هِشَامًا أسلمَا وهاجرَا، فَوجِدَ هِشَامٌ قَتِيلًا، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَأَمَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم له بالدية، مِائَة مِنَ الْإِبلِ، وأرسلها إلى أخيه مِقْيَس مع رجلٍ من فهر، فأخذ مقيس الإبلَ وقتل الرسول، وارتدَّ، وهربَ إلى مكة([9])، وهو ممن أهدرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم دمَه يوم الفتح، فَقُتِلَ([10]).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[النساء:94].
ورد في البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: “كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ، فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: لا إله إلا الله محمد الرسول الله، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ”([11])، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ دِيَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَرَدَّ غُنَيْمَتَهُ، وكان ذلك في سرية غزتْ قريةً من خَيْبَر، واسم القاتلِ قيل: أسامة بن زيد، والمقتول مِرْدَاسُ بْنُ نَهِيكٍ الْفَزَارِيُّ([12]) كما روي عن مالك، وقيل غير ذلك([13]).
(إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الضربُ في الأرض: السيرُ فيها، والسفر للتجارة ونحوها، أصلُهُ مِن الضرب بالأرجل؛ لأنّ المسافرَ يضربُ الأرضَ بقدميه (فَتَبَيَّنُوا) الجملة في جواب إذا؛ لما فيها من معنى الشرط، وتبيَّنوا: اطلبوا البيانَ وتثبتوا، ولا تستعجلُوا (أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ) ألقَى مِن الإلقاء، وهو إعطاءُ الشيء، و(السَّلَام) يُطلق على تحية الإسلام: السلام عليكم، ويطلق على السِّلم والمسالمة، وعدم العداوة للمسلمين، فإلقاؤُه في قوله (لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ) على المعنى الأول – وهو تحية الإسلام – معناهُ التلفظُ بـ: السلامُ عليكم، وعلى المعنى الثاني – وهو السلمُ والمسالمة – معناه: التلفظُ بإظهار ما يدلُّ على الاستسلامِ والانقيادِ، وهو النطقُ بالشهادتين، أي لا تقولوا لمن استسلمَ وانقادَ، وألقى عليكم السلام، وطلبَ الأمانَ (لَسْتَ مُؤْمِنًا) لا تردُّوا عليه ما جاء يطلبُه مِن الأمان، وما يظهرهُ من الإسلام، بحجةِ أنه مُتَّهمٌ في إسلامِه في ظنِّكم (تَبْتَغُونَ) بِذلِك عرضًا مِن الدنيا، متاعٌ قليل، وسُمّي متاعُ الدنيا عَرَضًا؛ لأنّه يَعرضُ وسرعانَ ما يزولُ، وعرضُ الدنيا الذي يبتغونه في هذه الآيةِ هو الغنيمةُ، فالذي يحملُكم على ردِّ الأمان، ممن ألقَى إليكم السَّلَم، هو طلبُ الغنيمةِ والحرص عليها، فلا تفعلُوا، فعند الله لكم مغانمُ كثيرة في قادمِ الأيام، تغنمونَها من عدوِّكم، لا تحوجُكم إلى ما فعلتُمُوه (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ) اعتبروا بحال أنفسِكم يوم أن كُنتُم مثلهم، تطلبونَ الأمان، فتُعطَونه، ولم يفتشْ أحدٌ عن قلوبِكم، ما إذا قلتُم ذلك مُكرَهين؛ خوفًا من السيف، أو راغبينَ، فلم تُتهمُوا في إسلامِكم، ومَنَّ الله عليكم بقَبوله، وثَبَّتَكُم عليه (فَتَبَيَّنُواْ) طُلب منهم التبيُّن مرةً أخرى؛ لأهميةِ التثبت، وما يترتبُ على التهاونِ فيه، مِن التسرعِ في سفكِ الدماء وما فيه مِن مفاسد، أو فتبيَّنوا هذه النعمةِ عليكم بالإسلام، واشكرُوا اللهِ عليها.
وقد وَضعت الآية قاعدةً عظيمةً في التربيةِ والإصلاح، بأن على من يتولَّى غيره ويسوسُهُ، ألّا يطلبَ منه ما لا يرضاهُ هو لنفسِه، فالله تعالى لامَهُم على أنهم لم يعذرُوا غيرهم، فيما كانوا هم يفعلونَه ويُعذَرون فيه (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ) ثم خُتمتِ الآيةُ بالوعيدِ في قوله (إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) فإنّ الإخبارَ بعلم الله بما يعملهُ الناسُ، يتضمّنُ وعيدًا بِمجازاتِهم على ما يعمَلونَ، وعلى رأسِها ما ذكرتْهُ الآيةُ مِن التحوطِ في الدماء.
[1]) المائدة: 32.
[2]) البخاري: 6862.
[3]) مسلم:116.
[4]) البيت لزهير بن أبي سُلمى:
أَلَا لَا أَرَى عَلَى الحَوَادثِ بَاقِيًا ولا خالِدًا إلّا الجِبالَ الرّواسِيَا
ديوان زهير بن أبي سلمى، ص:48.
[5]) النساء:48،116.
[6]) الفرقان: 68.
[7]) الفرقان: 70.
[8]) منها ما رُوي عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَمَّنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، ثُمَّ تَابَ وَآمَنَ وَعَمَلَ صَالِحًا، ثُمَّ اهْتَدَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ الْهُدَى، سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “يَجِيءُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ، تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ (ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللهُ ثُمَّ مَا نَسَخَهَا) النسائي في الكبرى:3448.
[9]) البيهقي في شعب الإيمان:292.
[10]) النسائي في الكبرى:3516.
[11]) البخاري: 4591.
[12]) التحبير لإيضاح معاني التيسير: 2/90، وتحفة الأبرار شرح مصابيح السنة: 2/457.
[13]) فتح الباري لابن حجر: 12/195.