المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (266)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (266)
[النساء:155-158].(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:155].
نقض بني إسرائيل للميثاق هو نقضهم للعهد الذي أخذ عليهم بالإيمان، والباء في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) للسببية، و(مَا) صلةٌ([1])؛ لتأكيد السبب، وهو نقض الميثاق، وما عطف عليه من الكفر وقتل الأنبياء، فهي سبب مؤكد للَّعنة وتحريم الطيبات، ونزول العذاب بهم، ولتأكيدِ الحصر في أن هذا هو سبب عذابهم لا غيره، أي ما لُعن مَن لُعن من بني إسرائيل إلَّا بسببِ نقضِهم لما أخذ عليهم من عهدِ الإيمان، وكفرِهم، وقتلِهم الأنبياء، وغير ذلك من جرائمهم، واستفيد تأكيد السببية والحصر مِن تقديم الجار والمجرور (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) إلى آخره على العامل المقدّر، وهو لعنّاهم، الذي دلت عليه الآية الأخرى في المائدة، في قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ)([2])، ويصحُّ أن يكون العامل المقدر أعمَّ من اللعن، أي: فبما نقضِهم ميثاقهم فعلنا بهم ما فعلنا مِن العقوبة.
والمعنى: فبسبب نقضهم العهد الذي أُخذ عليهم بالإيمان، وما عُطف عليه من كفرهم، وقتلِهم الأنبياء إلخ، وبسبب ظلمٍ منهم، عوقبوا بأنواع العقوباتِ؛ عوقبوا باللعنِ، وبالتّيه، وبتحريمِ الطيبات، قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)([3]).
وقوله (وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللهِ) آيات الله هي المعجزاتُ المنزلة من عند الله، المقروءة وغير المقروءة، مثل: القرآن، والتوراة، والمعجزات الأخرى التي أَيَّد الله بها أنبياءه، وكفرُهم بها: تحريفُها وعدم العمل بها، ومنه تكذيبهم بالقرآن (وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي: حالَ كونِ قتلِهم الأنبياءَ ظلمًا بغير حقٍّ، فلا مفهومَ لقوله (بِغَيْرِ حَقٍّ) بل حكاية لواقعِهم أنهم يقتلونَهم عدوانًا، فلا يتصور أن يُقتل الأنبياء بحقّ (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) جمع أغلف، أي: عليها أغلفةٌ وظروفٌ سكرت وأُحكمت عليها، لا يدخلها شيء، كما في الآية الأخرى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ)([4])، محروزة في أَحرزة ضُرب عليها الختمُ والطبع، لا يمكنُ لأحد الوصولُ إليها، فادَّعَوا أن قلوبهم محصنةٌ عن الهدى خِلقةً، دون عمل منهم ولا سبب، فردَّ الله عليهم (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ) بل حجبُها وتحصينُها كَسْبيٌّ؛ له سبب منهم، هو الامتناع من سماعِ الهدى، حتى لا تميلَ إليه؛ فقد قالوا إمعانا في الصدود: (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)([5])، فـ(بَلْ) في قوله (بَلْ طَبَعَ) حرف عطف للإضرابٍ، متعلقة بقولهم (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وهي عاطفةٌ على مُقدَّر، أي: ليست قلوبهم غلفًا خلقةً كما زعموا، بل طبع الله عليها بكفرهم، فقلوبُهم كقلوبِ غيرهم، ولكن لعنادِهم، وسدِّهم بابَ الهداية عن أنفسِهم، خذلَهُم الله، وأَبعدَهم عن الهداية (فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) قَلِيلًا: صفةٌ لمصدر مقدر؛ أي فلا يؤمنون إلَّا إيمانًا قليلًا، كما قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)([6])، وهذا القليلُ في حكمِ العدم؛ لأنّه كفرٌ، والكفرُ لا يتجزأ.
(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا)[النساء:156-157].
الضمير في قوله (وَبِكُفْرِهِمْ) يعود على بني إسرائيل، وجملة (بِكُفْرِهِمْ) معطوفة على قوله (وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ) فالأول كفرٌ عامٌّ، وهذا كفرٌ خاصٌّ بعيسى، فهو من عطفِ الخاصِّ على العام، حتى لا يكون من عطف الشيءِ على نفسه، وإن حمل على عموم الكفر هنا كما في الآية الأولى، فيكون تأكيدًا على كفرهم لإيغالهم فيه، ولتكرّر أنواعه منهم؛ كفروا بموسى صلى الله عليه وسلم، وكفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو كفر بعد كفر، فمِن كُفْرِهم قولُهم على مريم (بُهْتَانًا عَظِيمًا) أي كذبًا غاية في الشناعة، والبُهْتان: مِن بَهَت، إذا أتى بأمر عظيم من الافتراء، يُبهت به سامعه، فيتحير، حتى لا يدري ما يقول، فمِن كُفر اليهود رميُهم مريمَ بالفاحشة، وقولهم (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) ووصفُهُ بالرسالةِ إنْ كان من الكلام المحكيِّ بلفظِه عن اليهود، فهو من بابِ التهكُّم؛ لأنهم لا يُقرُّون برسالته، وما كفرُوا إلا بذلك، على حدِّ قول المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)([7])، أوْ ليسَ هو عين ما قالُوه، ويكونُ من باب الحكايةِ لقولهم، حكى القرآنُ قولهم بما يليقُ بالمسيحِ عليه السلام (وَمَا صَلَبُوهُ) الصَّلْبُ: أن يُوثَق المصلوبُ ويربط على خشبة، ويُرمَى فيقتل، وقد يُصلب ويربط ليُعذَّب، ثم يُخلَّى سبيله، والجملة حاليةٌ، أي قولهم: إنَّا قتلناه، والحالُ أنهم في حقيقة الأمر ما قتلُوه، وما صلبُوه، بل عَصمَه الله، ولم يُمكنهم منه (وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) شُبِّهَ: يمكن أن يكونَ بمعنى وقوع الشَّبَه، أو بمعنى وقوع الشُّبْهَة.
فعلى الأول، أي: حين بحثِهم عن المسيح شُبّه لهم رجلٌ آخر في صورتِه، فصلبُوه، وظنوا أنهم صَلبوا المسيح، ومن ثَم عَبدوا الصليب؛ لأنهم في زعمِهم ظفروا بعدوِّهم، وما يُقرِّبهم إلى معبودهم([8])، ويقال: إن الذي أُلقي عليه الشبه، كان في الأصل أحدَ أصحابِ المسيح، فتحولَ إلى النفاقِ، وتعاونَ مع اليهود، فعاقبه الله بكفره؛ والضمير في (شُبِّهَ لَهُمْ) عائدٌ على اليهودِ في زمانِ المسيح، وعلى المعنى الثاني – وهو أن شُبِّه بمعنى الشُّبهة التي وقعت في نفوسهم وصرفتهم عن الحقيقة- يكون ضمير لهم عامًّا، عائدًا على جميع اليهود في ذلك الوقت، وفي الأزمنةِ الأخرى، فإن جميعهم وقعوا في الشبهة حول قتل عيسى عليه السلام، فيكون قوله (شُبِّهَ لَهُمْ) بمعنى شبّه عليهم، أو تكون اللام للتعليل، أي: وقع التلبيس والحيرة لهم في قتلِ المسيح ليَضلوا، أو لأجلهم؛ فيَضلوا فيه بأنواع الكذبِ والأراجيف، فعلى هذا المعنى ليس هناك شَبيهٌ قُتلَ بالفعل بدلَ عيسى، ولكن أوقعهم الله في الشُّبهة؛ ليختلفوا اختلافًا قائمًا على الشكوك والأكاذيب، فاختلفوا في قتله: هل قُتل أم لا؟ واختلفَ النصارى: هل صُلبَ هو، أو صُلب غيره؟ فبعضهم قال: كان كاذبًا فصلبناه، وبعضهم قال: إن كان هو الذي صُلب، فأين صاحبُنا الذي افتقدناه؟ وبعضهم قال: صُلب الناسوت منه، وصَعد اللاهوت، اللاهوت: الإله منه، والناسوت: الإنسان فيه، يعني في زعمهم أن الإله حَلَّ فيه، فلما صُلب صعدَ اللاهوت وبقي الجسم، وهذا من إلحادِ الحلولية، التي تقول: حلّ الإله فيه (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) ليس لهم فيما يقولون عنه علمٌ ولا يقينٌ، ولكن تَخرصٌ وشُبهٌ وظنٌّ، فالظن هنا بمعنى الشكِّ، كقوله: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)([9])، وقوله: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)([10])، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ)([11]) (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) يَقِينًا: حالٌ، أي: ما قتلوه متيقنينَ قتله.
(بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء:158].
هذه هي الحقيقةُ التي قطعت كل التكهنات، وقولَ كلِّ خطيب، أنهم لم يقتلوه، بل رفعه اللهُ إليه، فقد اتفقَ سلفُ الأمة على أنّ عيسى صلى الله عليه وسلم في السماء حيٌّ، وأنه يَنزل في آخر الزمان، فيَقتل الخنزير، ويَكسرُ الصليب، ويَقتل الدَّجّالَ، ويُفيضُ العدل بين الناس، ويُظهر هذه الملةَ؛ ملة محمد صلى الله عليه وسلم، ويَحُج البيت ويَعتمر، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله في آل عمران: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)([12])، ففيه زيادة تفصيل وبيان، كما تقدمت أحداثُ هذه الآياتِ في مواضعَ متعددةٍ في قصصِ بني إسرائيل، وأخبارهم مع أنبيائهم، في سورة البقرة وآل عمران (وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا) يُعز مَن اعتزَّ به، ويُذل من التجأ إلى غيره (حَكِيمًا) في أحكامه، يجازي المُحسن إحسانًا، ويعاقبُ الظالمين جحيمًا وعذابًا.
[1]) ودخول (مَا) الصلة لا تكفُّ الباء عن عملها في جر ما بعدها، كما هنا، بخلاف دخول ما على الكاف ورُبَّ، فإنها تكفها عن عملها في جر ما بعدها.
[2]) المائدة: 13.
[3]) المائدة: 13.
[4]) فصلت: 5.
[5]) فصلت: 5.
[6]) البقرة: 85.
[7]) الحجر: 6.
[8]) وعلى هذا المعنى يكون شُبِّهَ مسندًا إلى الجار والمجرور، القائم مقامَ نائب الفاعل، أي شُبِّهَ مُشَبَّهٌ لهم كأنه هو فقتلوه، فالقتل وقع على الشبه لا على المسيح عليه السلام.
[9]) النجم: 28.
[10]) الحجرات: 12.
[11]) الموطأ: 1616.
[12]) آل عمران: 55.