المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (267)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (267)
[النساء:159-161].(وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا([1]))[النساء:159].
الضمير في قوله (قَبْلَ مَوْتِهِ) يصح عودُه على أهل الكتاب، وعليه يكون المعنى: وما أحدٌ من أهل الكتاب الذين كفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم إلا ـ وعزّتي ـ لَيؤمنن عند قبض روحه بالمسيح صلى الله عليه وسلم، وذلك حين لا ينفعه الإيمان؛ ليقيم الحجةَ على نفسه بالتفريط، حين كان ينفعُه الإيمانُ ولم يؤمن، فدلت الآية على أن أهلَ الكتاب في ذلك الوقتِ -وهو56 قبض أرواحهم- يؤمنون بعيسى؛ اليهود لأنهم كانوا يُكذِّبونه، ويؤمن النصارى بأنه عبدُ الله وليس إلَاهًا، ويَشهدُ لهذا الحمْلِ في إرجاع الضمير على أهل الكتابِ في الآية قراءةُ أُبي: (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ)([2]) فالآية على هذا إخبار من الله تعالى عما يحصلُ منهم عند موتهم.
ويصح عود ضمير (مَوْتِهِ) على عيسى صلى الله عليه وسلم، وعليه فهو إخبارٌ عن إيمان أهلِ الكتاب بعيسى، حين ينزلُ آخرَ الزمان، يكسرُ الصليبَ، ويقتلُ الخنزير، ويحكمُ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم جميعًا يُصدقونَه، ويؤمنونَ به حين ينزل، وهذا يفيد أنّ الذين يؤمنونَ حينها، همُ الموجودونَ من أهل الكتاب في ذلك الوقت، وهو يعارضُ العمومَ المستفادَ من النكرة في سياقِ النفي، الداخل عليها حرف الجر في قوله (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) فإنه يتناولُ بعمومِه جميعَ أهل الكتاب في كلِّ وقتٍ، وهو ما يتمشَّى مع الاحتمال الأول، فيكونُ أرجحَ (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) يشهد عليهم بأنه بلغهم الرسالة التي كلّفَه الله بها، فلا تبقَى لهم حجة.
(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[النساء:160-161].
هذا معطوف على ما تقدم في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) وما بعده، والمعنى: فبسببِ نقضِهمُ العهدَ الذي أُخذ عليهم بالإيمان، وما عُطف عليه من كفرِهم، وقتلِهم الأنبياء إلخ، وبسببِ ظلمِهم المفرطِ الهائلِ عوقبوا بأنواع العقوبات؛ عوقبوا باللعن، وبالتّيه، وبتحريمِ الطيبات التي ذكرها الله تعالى تفصيلًا في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ)([3]) إلى آخر الآياتِ([4])، فالتنكير في ظُلْمٍ للتهويل، أي (فَبِظُلْمٍ) عظيمٍ ارتكبوهُ، والباء للسببيةِ (وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا) مِن صَدَّ يَصِدّ اللازم إذا امتَنَعَ، وصَدَّ يَصُدّ المتعدِّي إذا منع غيره، والصَّدُّ الوارد في الآية يصلحُ مصدرًا للفعلين، مما يدل على أن كُلًّا من المعنيين مرادٌ، فهم صَدُّوا أنفسَهم وامتنعوا، فلم يهتدُوا، كَذَّبوا الأنبياء، وقتلوهم، كَذَّبوا عيسى صلى الله عليه وسلم، وكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وَكذلك هم صَدُّوا غيرهم، فمنعُوا الهدى عنهم بطرقٍ شتَّى؛ بتحريفِ الكلم عن مواضعه، وتحريفِ الكتب، وشرائِهم بعهد الله وأيمانه ثمنًا قليلًا، وخداعِهم لأقوامهم بقولهم: (لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً)([5])، و(نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)([6])، إلى غير ذلك من أنواع التضليلِ والصدِّ، وقوله (كَثِيرًا) صفةٌ لمصدر مقدر، أي: صَدًّا كثيرًا (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا) أي تعاملهم به، وقوله (وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) جملةٌ حاليةٌ، دالة على أن الربا الذي انهمَك فيه اليهودُ، وشاعَ بينهم قديمًا وحديثًا، كان مُحرَّمًا عليهم، سواء فيما بينهم، أو مع غيرهم، ويؤخذُ من الآية أن النهيَ عند الأصوليين يفيدُ التحريم؛ لأن الربا من جملة ما نهوا عنه ووقعت عليهم العقوبةُ بسببِه (وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) أكل المال بالباطل أعمُّ في تحريم المال من الربا، فيشمل: الرشوة، والغش، والتحايل، والاختلاس، والغصب، وكل جَمع للمال غير مشروع (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) دل قوله (للكافرين منهم) على أن العذاب خاصٌّ بمن لم يتبْ منهم، وبقي على ظلمِه، فلا يشملُ العذابُ مَن أسلمَ منهم وتابَ، كعبدِ اللهِ بنِ سلام، ومَن آمنَ معه مِن أهل الكتاب.
[1]) (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) إن نافيةٌ بمعنى (ما)، و(مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) صفةٌ لموصوف محذوف، تقديره: أحدٌ، مبتدأٌ، وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، و(لَيُؤْمِنَنَّ) اللام للابتداء موطئةٌ للقسم، وجملة لَيُؤْمِنَنَّ جواب القسم، خبرُ المبتدأ، والاستثناء مُفرَّغ من عموم الأحوال، وضمير (بِهِ) يعود على عيسى صلى الله عليه وسلم.
[2]) وعود ضمير الجمع (قَبْلَ مَوْتِهِمْ) على (أَحَدٌ) المقدر؛ لأنه نكرة في سياق النفي، تعمُّ، فتطلقُ على الجمع وغيره.
[3]) الأنعام:146.
[4]) عطف قوله (فَبُظُلْمٍ) على (فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم) يترتبُ عليه أن الفعل الذي تعلقت به المعطوفات كلها واحدٌ، هو (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ)، ويَردُ عليه أنّ بعضَ أسبابِ التحريم، وهو قوله: (وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا)، وقعتْ في زمن عيسى، وهو متأخّرٌ على تحريم الطيبات عليهم وقتَ التّيهِ في زمنِ موسى، ويلزمُ منه كون بعض السببِ وهو قولهم على مريم بهتانًا عظيمًا، وقعَ بعدَ المسبَّب وهو تحريمُ الطيبات، والسببُ أو بعضُه لا يقعُ بعد المسبَّب؛ لذا قيل: الأَولى أن يُقدَّر الفعل الذي تعلقت به المعطوفات كلها -وهي قوله فبما نقضهم وقوله فبظلم- ليس (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) بل (لَعَنَّاهُم)، كما وردَ في الآية الأخرى، أو بفعل مقدر، يَذهبُ به السامعُ -قصدًا للتهويلِ- كلَّ مَذهَب، أي: فبما ذكر مما ارتكبوه من الأسباب كلها فعلنا بهم ما فعلنا، ومنه أننا حرمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم. ويمكن أن يرفع التعارض المذكورُ بجعل جملة (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا) مستأنفة؛ لذكر أسباب لعقوبات أخرى غير العقوبة المقدرة في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ)، وهي اللعن. ومِن مجموعِ كلِّ ما ارتكبوهُ من الأسباب استحقُّوا أنواعًا من العقوبات، وليس هناك ما يمنعُ أن تكون بعضُ العقوباتِ كانت على جرائم مخصوصة، وعقوبات عامة على جرائمَ أخرى، فتحريمُ الطيبات مثلًا لا يكونُ عقوبةً على قولهم على مريم بهتانًا عظيمًا، لأنه متقدّم على قولهم هذا على مريم، إلَّا أن يحمل تحريم الطيبات على أحفادهم بعد عيسى، والظلمُ الذي على رأسُهُ الكفرُ بآيات اللهِ، وقتلُهم الأنبياءَ، ونقضُ الميثاقِ؛ سببٌ عام لكل عقوبةٍ حلتْ بهم، فهو سببٌ للَّعن والطردِ مِن رحمةِ الله، الوارد في قوله: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ)، وسببٌ لتحريمِ الطيباتِ وما عطفَ عليها في هذه الآيةِ، وبهذا ينتظمُ المعنى، ويسلمُ من الاعتراضِ.
[5]) البقرة: 80.
[6]) المائدة: 18.