طلب فتوى
المنتخب من صحيح التفسيرمؤلفات وأبحاث

المنتخب من صحيح التفسير –  الحلقة (27)

بسم الله الرحمن الرحيم

المنتخب من صحيح التفسير

الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني

الحلقة (27)

 

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30].

بعدَ أنْ تطلّعت النفوسُ – في الآية السابقة – إلى النوع الإنسانِيّ، الذي مَا خُلقَ مَا في الأرضِ جميعًا إلَّا لأجْلِه، ناسبَ عَطْف قصةِ خلقِ أصْلِ الإنسان آدم عليه السلام، على قصةِ خلقِ السموات والأرض، ويجمعُ ذلك أنّ في كلٍّ عبرة، وإقامة الحُجةِ على أهلِ الكفرِ والضلالِ.

(وَإِذْ قَالَ) (إذْ) ظرفُ زمانٍ، اسم مبهمٌ، يفسره ما بَعده، متعلّقٌ بمحذوفٍ مبتدأ، تقديره: ابتداء خلقكم إذْ قال ربك للملائكة، ومعنى ما بعد إذ متجرِّد للماضي، كما أنّ ما بعد إذا للمستقبل، وإذا دخلت إذ على المستقبل، فهو للتذكير باستحضار الحال الماضي ليكون حاضرًا في الذهن، ومعناه في الحقيقة الماضي؛ كما في قوله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)([1])، وإذا دخلت (إذا) على الماضي، فهو لتحقق وقوع ما بعدها، حتى كأنه وقع بالفعل، ومعناه في الحقيقة  للمستقبل؛ كما في قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى)([2])، ولا تُضاف كلٌّ مِن (إذْ) و(إذا) إلّا إلى الجملِ الفعلية.

وخطابُ الله تعالى للملائكةِ متقررٌ ثابتٌ في علم الله تعالى أزَلًا، وتعلقت إرادة الله تعالى بتوجيهه إلى الملائكةِ عند خلق آدم، وهكذا يُقال في سائر أمر الله تعالى وقضائه؛ هو متقرر في علم الله تعالى في الأزل، بحصوله في الوقت الذي أراده سبحانه أن يحصل (رَبُّكَ) تقدم الكلام على اسم الرب في الفاتحة (لِلْمَلَائِكَةِ)([3]) دخلت اللام على المقول له (الملائكة)؛ لتكون أصرحَ في الدلالة على المباشرة في الخطاب، والملائكة عبادٌ مُكرَمون، مخلوقونَ من نور، لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لذا لا ينبغي تسميةُ البناتِ باسم مَلَاك، ولا الذكورِ بمَلَك.

(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ) (جَاعِلٌ) بمعنى خالقٌ، لذا عُدِّيَ إلى مفعول واحد (خلِيفَةً) فَعِيلَة، يكون بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول؛ كرهينة بمعنى مرهون، فآدم عليه السلام خَالِفٌ ومَخْلوف، استَخلفهُ الله في الأرض؛ لإمضاء أحكامه، والقيامِ بأمره ونهيه، فهو وذريتُه يخلفُ بعضُهم بعضًا، كلّ جيلٍ من ذريته خالفٌ لمن قبله، ومخلَف ممّن بعده.

وخطابُ الله تعالى للملائكة بخلقِ آدم، وجوابُ الملائكة له، وهو سبحانه أعلمُ بهم وبجوابِهم؛ هو لتكريمِ الملائكة، ولإظهارِ فضلِ آدم عليه السلام.

(قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) معلومٌ أن الملائكة لا تسبق ربَّها بالقول، وأنّها لا تعلم الغيبَ، فما حقيقة سؤالِهم ربَّهم عن أن يستخلفَ مَن يقع منه الفساد؟

إمّا لأنهم فهموا مِن لفظِ الخليفةِ أنَّ في بني آدمَ مَن يفسد، فإن الخليفةَ مَن يتولى إصلاحَ ما فسدَ، وعلى هذا فالاستفهامُ على حقيقته.

وإمّا لأن الله تعالى أعلمَهم أنّ مِن ذرية الخليفة آدمَ مَن يكونُ منه فسادٌ، وسفكٌ للدماء، أو لِما علِموه مِن أنّ الجن كانت في الأرضِ قبلَ آدم فأفسَدوا، وسفكوا الدماء، فيكونُ الاستفهامُ لاستعظامِ ما يحدث وهولِه.

فإنّ الملائكةُ أحبت أن يكونَ الخليفةُ مجبولًا على الطاعة، لا يتأتَّى له الفساد، ولا تكون منه المعصية؛ قُرْبى مِن ربهم، وزُلْفى إليه، كأنهم يقولون: لو جعلْتنا في الأرض واستخلفتَنا، فنحن ننزِّهُك ونقدِّسُك، ونعظم ذكركَ عمّا لا يليق، كما أننا نطهِّر أنفسَنا ابتغاءَ مرضاتِك، وأنتَ المحمودُ أولًا وآخرًا أنْ هديتَ إلى ذلكَ.

(وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) السَّفْكُ: الصبُّ والسَّفْحُ، ولا يستعمل إلَّا في الذّم، أي: يقتلُ ويتعدَّى على الدماءِ (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ننزّهُك عن السوء، ونبَرِّئُك عمّا لا يليقُ؛ مِن السَّبْح، وهوَ الجَريُ والإرسالُ، ومنه: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا)([4])، فالمسبِّحُ مسترسلٌ في تنزيهِ ربِّه، وفي الصحيح: (سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عنْ أفضلِ الكلام، فقال: ما اصطَفاه اللهُ لملائكتِه؛ سبحانَ اللهِ وبحمدِه)([5])، ويطلقُ التسبيحُ أيضًا على الصلاةِ، ومنه قوله تعالى: (فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ)([6]).

(وَنُقَدّسُ لَكَ) التقديسُ: التعظيمُ والتَّمجيدُ والتطّهير، أي: نعظِّمُك ونمَجّدُك، ونطَهِّرُ ذِكْرَكَ عمّا يقولُ المُلحدونَ والظالمون، ونطَهِّر أنفسَنا لعبادتِك، ومنه: الأرضُ المقدَّسَة، يأتِيها الناسُ لتطهيرِ أنفسِهم، والوادِ المقدَّس، أي: المُطَهَّر، وعطفُ سفكِ الدماءِ على الفسادِ، مِن عطفِ الخاصِّ على العام.

(قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) مِن أهليةِ آدمَ للخلافة، أعلمُ ما خفِيَ عنكُم؛ مِن أنّ في ذريتِهِ أنبياء ورسلًا، وأهلَ طاعةٍ وعبادةِ، ومُصلِحين.

[1]) الأحزاب:37.

([2] النازعات:34.

[3]) الملائكةُ قيل: مفردها ملك، وجمعها على ملائك شاذ، وقيل: مفردها ملاك كشمال، ويجمع على شمائل، وقيل: ملأك، وحذفت همزته تخفيفًا فقيل ملك، والتاءُ فيه إمَّا لتأنيثِ الجمع بمعنى الجماعة؛ كالظَّلَمَةِ جمعُ ظالم، والصلادِمة للخيل الشدادِ، جمعُ صَلْدم، والتأنيثُ في جمع الملائكةِ لِما كان يعتقده الوثنيونَ من العرب من أن الملائكة إناث، وإما أن تكون التاء لتأكيد الجمع والمبالغة؛ كالتاء في عَلَّامَة ونَسَّابَة. يراجع أبو حيان في التفسير، وتاج العروس.

[4]) المزمل:7.

[5]) رواه مسلم:2731، والترمذي:3593، وقال: حديث حسن صحيح.

[6]) الصافات:143.

الوسوم
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق