المنتخب من صحيح التفسير – الحلقة (271)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (271)
[النساء:172-175].(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا)[النساء:172].
الاستنكاف في قوله (لَن يَسْتَنكِفَ) فِعله نَكَفَ، وأصل النَّكْف تنحيةُ الدمعِ من الخد بالأصبع، حتى لا يبقَى أثره، ومعناهُ الأنفةُ والتعالي، فالاستنكاف أشدُّ من الاستكبار في الترفع، والمعنى: لن يترفع المسيح عن عبوديته لله، ولن يمتنع ويتنحَّى عنها أنفةً وحميّة، فيقدر حرف الجر عن أو من في قوله (أَن يَكُونَ عَبْدًا لله) فإنه يقال في وصف المتكبّر: استنكفَ عنه أو منه، والآية في سياق تأكيد الرد على مَن زعموا أن المسيح هو الله، أو ابن الله، بما يتضمن أن هذا الباطل هو من أَمانيِّهم وخَيالاتهم، فإن المسيح لا يأنف ولا يستكبر عن أن يكون عبدًا من عباد الله، كواحدٍ منهم، فالتنكير في (عَبْدًا) أفاد المبالغة في عبوديته لله، فهو أبلغ من أن يقال: أن يكون عَبْدَ اللهِ، بالإضافة، لأن الإضافة قد تُوهم اختصاصًا ومنزلةً، وقوله (وَلَا الْمَلَآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) عطفٌ على المسيح، أي: ولا يستنكف كلُّ واحد من الملائكة أن يكون عبدًا لله، ففي الآية رد على الفريقين؛ أهل الكتاب، والمشركين، أهل الكتاب ألّهوا المسيح، والمشركون عَبدوا الملائكة، وقالوا عن الملائكة بنات الله، والمقربون من الملائكة: سادتُهم، الذين يُسمَّون الكُروبيين، من كَرُب كقَرُب، ومنهم جبرائيلُ وإسرافيلُ وميكائيل، ويقابلُهم الروحانيون، مطلق الملائكة، ويكون عدم استكبار غير السادة من الملائكة عن العبودية بالأحرى والأوْلى، ويمكن أن يكون وصف المقربين للملائكة وصفًا كاشفًا، لا مفهوم له، على معنى: أن جميع الملائكة متصفون بالقربِ من الله، ومن يأنف ويستكبر عن العبادة والعبودية لله، فسيعذبه، فجواب الشرط في قوله (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ) محذوفٌ، دل عليه (فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا) لأن الحشر إنما هو للجزاء على الأعمال، وقد صرّح بجزائهم بعد هذا في قوله (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ) والضمير في (يَحْشُرُهُمْ) يعود على الذين استنكفوا، وقوله (جَمِيعًا) حالٌ، والتقدير: فسيحشر المستنكفين والمتكبرين عن عبادة الله، مجتمعين مع غيرهم من الخلق.
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)[النساء:173].
هذا تفصيلٌ بعد إجمال لجزاء الفريقين، على طريق اللفِّ والنشرِ التقديريّ؛ لأن قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ) وإن لم يسبق لهم ذكرٌ صريحٌ، فهم الطائفة الذين يعبدون الله، ولا يستكبرون عن عبادته، المدلول عليهم بقوله (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ) إلى آخره؛ وذُكروا عند التفصيل تصريحًا؛ ليُقابَل جزاؤهم بجزاء الفريق الآخر المستكبر؛ ليزداد فرح المؤمنين، وتعظمَ حسرة المتكبرين، وقوله (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) من التوفية في الكيل والوزن، وهي الزيادة في إعطاء الشيء المستحَق من وزن أو كيل أو عدد؛ ليتحقق كماله، يقابلها التطفيف والخسران، قال تعالى: (أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ)([1])، وقال: (وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)([2])، ثم هناك زيادة أخرى فوق توفية الله لهم أجورَهم، يعطيها الكريم من فضله (وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ) وهم الفريق المقابل للذين آمنوا وعملوا الصالحات، فجزاؤهم عندما يُحشرون إليه أنه (يُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) عذابًا مؤلمًا لا يُطاق، وقد تقدم اشتقاق لفظ أليم (وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) يتكرر في القرآن كثيرًا معنى هذه الآية: ليس في القيامة لأحدٍ وليٌّ ولا نصيرٌ من دون الله، وكأن هذا التكريرَ الواردَ بنفي النصرة في المحشر، لتنبيهِ الناس على ما يندفعونَ إليه في الدنيا، من البحثِ عن التحالف والنصرةِ والولاءات، بكل الوسائل، فقطعت بالتكرير أطماعُهم عن هذا في القيامة، فلا نصرةَ ولا تحالفَ، أمّا عمَّا يسرع إليه الناس من التحالف والتناصر والشفاعة في الدنيا، فهو إن كان مشروعًا فهو خيرٌ وتعاون على البر، وإن كان غير مشروعٍ فهو إثمٌ ومعصيةٌ.
وكذلك الولاءاتُ بين الناس محكومةٌ بميزان الشرع، فولاءُ المسلم المأمون العاقبةِ ما كان لله ورسوله وصالحي المؤمنين،كما كان ولاءُ النبي صلى الله عليه وسلم، أما العدوُّ في الدين فلا ولاءَ له وإن كان قريبًا، قال صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ إِنَّ آلَ أَبِي، يَعْنِي فُلاَنًا، لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)([3])، فهذه هي الولايةُ والنصرةُ والتحالفُ، المحمودةُ العاقبة في الدنيا والآخرة، وهو ما لا نراهُ في غالبِ تحالفاتِ أيامِنا، نرى تحالفَ القبيلةِ، والعصبيةِ، والتحزباتِ، والتوجّهات الفكريةِ، مما يكونُ الولاءُ فيه للمنافعِ الخاصة، مودة في الحياة الدنيا؛ لجنْيِ مكاسب يرجونَها، نرى تناصرَ الاستعانة بالأقوياء من حكامٍ، وذوي سلطانٍ ونفوذٍ، على الفسادِ والبغيِ والتسلطِ على قهرِ الشعوب، نرى ولاءاتٍ لدولٍ كبرى معادية للإسلام، يخطبُ ودُّها، ويركنُ إليها ركونَ طاعةٍ ومذلة؛ اعتزازًا بقوتِها وهيمنتِها، مع العلم بما تُبيتهُ هذه الدولُ للشعوب المستضعفة وبخاصةٍ المسلمة، من المكر بها، والتدخل في شؤونها، هذه هي حقيقة أمرها، على الرغم مما تعلنه صباح مساء، أنها ما تتدخلُ إلا لحماية الشعوب، واحترام القانون، والعمل على الاستقرار، هذا ما تظهره وتعلنه، أما ما تعمله فشيء آخر؛ فِتنٌ، ودسائس، وتلونٌ في المواقف، وتنكرٌ للقوانين، وتقويضٌ للاستقرار، وحرمانٌ للناس مِن حقوقِهم وحرياتهم، وخيراتِ بلادِهم، ومِن أنْ ينعمُوا بالأمنِ، وأن يقيموا دينهم، ولا تتمكنُ هذه القوَى الكبرَى مِن هذَا، إلَّا باستخدام بعضِ أبناء تلكَ الشعوب، تَدخلُ في تحالفاتٍ معها، وتُدخلُ في عقولهم أنها ما تعملُ إلّا لأجلِ بلدِهم واستقرارها، والنهوضِ بها، تَستخدمُهم ليكونُوا وكلاءَ محليين عنها، تُطوعهم تارةً بالوعودِ بالمناصب، وتارةً بالتخويفِ من العقوبات، مع معرفةِ القاصِي والداني، ويقينُ الجميع بأنّ هذه القوى الدولية على طولِ العهود، ما سَعَتْ يومًا لصالح دولةٍ ضعيفةٍ، ما كان من الموالاة في الدنيا على هذا النحو، أصحابُها لن يجدوا لهم مِن دون الله وليًّا ولا نصيرًا، يضمحلُّ الاعتزازُ بتلك القوى كلِّها، ولن تغنيَ أحدًا فتيلًا، كما قال تعالى: (خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)([4]).
(يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)[النساء:174-175].
هذا نداءٌ لعامة الناس، أن يغتنموا ما أُعطوه من الوحي والنور النيّر الواضح، الموثوق به، فالبرهان: الحجة القاطعة، وهي المعجزات المحسوسة، الدالة على صدق الرسل وما جاؤوا به من الوحي؛ لأنّ حجتَها خارقةٌ محسوسةٌ قاطعةٌ، لا تقبلُ الرد، إلّا من مكابرٍ معاند، والنور المبين هو القرآن، بقرينة (وَأَنزَلْنَا) فهو نورٌ واضحٌ، يُبين طريق الهدى، يَهدي الله به الحيران، ويُذهب تلبيساتِ وساوس الشيطان (فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ) عند دعوة الناس الذين جاءهم من الله البرهان، قسمٌ منهم انتفعوا، وآمنوا (وَاعْتَصَمُواْ بِهِ) احتَمَوا بالله، وتمسكوا بِما جاءهم منه، فهؤلاء سَيُدخِلُهُم الله فِي رَحْمَةٍ منهُ، وَيغمرهم بأفضاله، ويُغدق عليهم ما لا يخطرُ ببالهم من خيراتهِ، ويهديهم ويوفقهم إلى سُلوك الصراط المستقيم، الذي لا التواءَ فيه، المُوصل إلى رضوانه؛ لأن كل ما يأملونه من الراحة في الدنيا والآخرة يملكُه هو، لا يملكُه أحدٌ سواه، فلا يتعلقون بغيره، وطُوي في التفصيل القسمُ المقابل، وهم الذين لم يقبلوا الهداية، لم يُذكروا؛ للتهويلِ عليهم بما ينتظرهم، أي: وأما الذين كفرُوا فلا تسألْ عنهم، أو فسيتحسَّرونَ لما يصيبهم من العذابِ، ولما يَرَوْن من توفيةِ أجورِ العاملين، دل على هذا القسم الذي طُوي (أمَّا) التفصيلية، فإنها حرفٌ يؤتَى به بعد الإجمال، لتفصيلِ وتقسيمِ المجمل قبلها، وهو هنا قوله (يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُم بُرْهَٰنٌ مِّن رَّبِّكُمْ).
[1]) الشعراء: 181.
[2]) الرحمن: 9.
[3]) مسلم: 439.
[4]) الأعراف: 53.