المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (272)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (272)
[النساء:176].(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[النساء: 176].
(يَسْتَفْتُونَكَ) أي في الكلالة، فالمتعلِّق محذوفٌ للعلم به، وإسناد طلب الفتوى في الكلالة إلى ضمير الجماعة (يَسْتَفْتُونَكَ) يَحتمل أنه من باب التعبير عن الواحد بالجمع، على حد قوله: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللهِ)([1])، ويحتمل أن إسناد الفتوى إلى الجماعة في (يَسْتَفْتُونَكَ) لتكرر السؤال عنها من الصحابة، وهو الأقرب، فقد تكرر السؤال عنها من عمر ، بل كان موضوع هذه الآية يؤرقه، ضمن آيات أخرى سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة، حتى قَالَ رضي الله عنه: (مَا رَاجَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم فِي شَيْءٍ مَا رَاجَعْتُهُ فِي الْكَلَالَةِ، وَمَا أَغْلَظَ لِي فِي شَيْءٍ مَا أَغْلَظَ لِي فِيهِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: (يَا عُمَرُ، أَلَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ؟)([2])، وقال في خطبة له: (ثَلاَثٌ، وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا: الجَدُّ، وَالكَلاَلَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا([3])، وَفِي رِوَايَة: الْخِلَافَةُ)([4])، وقال أَيْضًا: (وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَدَعُ بَعْدِي شَيْئًا هُوَ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَمْرِ الْكَلالَةِ)([5])، وَقَالَ: (وَإِنِّي إِنْ أَعِشْ أَقْضِ فِيهَا بِقَضِيَّةٍ يَقْضِي بِهَا مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَمَنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ)([6])، وقال فِي مَجمَعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: (لَأَقْضِيَنَّ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تَتَحَدَّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهَا)، وَأَنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا فِي ذَلِكَ، فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللهَ فِيهِ، فَلَمَّا طُعِنَ دَعَا بِالْكِتَابِ فَمَحَاهُ، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ، قَالَ: (أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَتَى عُمَرَ حِينَ طُعِنَ، فَقَالَ: احْفَظْ عَنِّي ثَلاثًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا يُدْرِكَنِي النَّاسُ: أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَقْضِ فِي الْكَلالَةِ قَضَاءً، وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ عَتِيقٌ)([7]).
وسماها النبي صلى الله عليه وسلم آية الصَّيف؛ لنزولها في الصيف، وتسمى آية الكلالة التي في أول السورةِ بآيةِ الشتاء؛ لنزولها بالشتاء، وصور الكلالةِكثيرةٌ، ذُكر بعضها في أولِ السورة، وذُكر بعضها هنا، وقد اتفق أهل العلمِ على أن كلَّ فريضة لا والدَ فيها ولا ولدَ، فهي كلالة، فليست محصورة بمسألة واحدة.
وتقديم اسم الجلالة في قوله (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ) للاهتمام بالفتوى في شأن الكلالة، وأن الله تعالى تَولى الفتوى فيها بنفسه، وليس التقديم للحصر، وإسناد الفتوى إلى الله تنويه بشأن أمر الفتوى الذي هو فريضة من فروض الكفاية على المسلمين، وقوله (امْرُؤٌ) فاعلٌ لفعل محذوف، يفسره ما بعده، أي إن هلك امرؤ، ولفظ (امرؤ) يطلق على الذكر والأنثى من بني آدم، وهو في الآية نكرة في سياق الشرط تعم، وعمومها معناه الجنس الصالح لكل امرئ هلك، لا لواحد بعينه، وكذلك قوله بعده (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) هي لجنس الولد وجنس الأخت، لا لولد وأخت معينة، ولذا صح ذكر امرئ في الآية، مرة موروثًا ترثه أخته في قوله (إن امرؤ هلك وله أخت) ومرة وارثًا يرثها في قوله (وَهُوَ يَرِثُهَا) وكذلك الحال مع الأخت، ذُكرت مرة وارثة في قوله (فلها نصف ما ترك) ومرة موروثة في قوله (وهو يرثها)، ولإرادة الجنس الصالح للواحد والجمعِ في (أخت) و(امرؤ) على سبيل البدل، أُعيد الضمير عليهما جماعة في قوله (وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَآءً) والأخت في قوله (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) هي الشقيقة، أو لأب، وليست لأم؛ لأن الأخ والأخت للأم لا يشترط في ميراث أحدهما من الآخر عدم الولد، المذكور في قوله (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) بل الإخوة للأم يرث أحدهم من الآخر السدس مع وجود الولد، وقد تقدم ذكرهم في آية الكلالة أول السورة، في قوله (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ) والولد في قوله (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) يطلق على الذَّكر والأنثى؛ لأن شرط ميراث الكلالة ألا يكون للميت ولد من ذكر أو أنثى، ولأن شرط أخذ الأخت النصف فرضًا، عدم وجود بنتٍ، فالولد في الآية يعمهما، وقوله (فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ) أي: إن كان الوارث للهالك الذي ليس له ولد اثنتين من الأخوات، أو أكثر (فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) للأختين فأكثر الثلثان من الفريضة، فإن كان الورثة للهالك الذي ليس له ولد (إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَآءً) ذكورًا وإناثًا مجتمعين، أشقاء أو لأب، فيقتسمون التركة (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ).
ثم قال الله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا) وفي هذا التركيب وأمثاله إضمارٌ مقدر، لابدَّ منه لتصحيح المعنى، فعند نُحاة الكوفة تُقدر لا النافية قبل الفعل، أي: يبين الله لكم ألّا تَضلوا، وعند البصريين يُقدر مضافٌ محذوفٌ؛ أي خشية أو مخافة أن تضلُّوا، وقد جاء في الصَّحِيحِ في سبب نزول هذه الآية؛ عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أنه سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، يَعُودَانِي مَاشِيَيْنِ، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَأَفَقْتُ، قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ})([8])، وهي مِن أواخرِ القرآنِ نزولًا.
ثم خُتمت السورة، وهي مليئة بالأحكام التي تتطلب العلم، بإسناد العلم كله إلى الله في قوله (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليمًا لأهل هذا الشأن بعدم الاغترار، وأن يكونَ دأبهم التواضع، والتبرؤ من حولهم إلى حول الله وقوته، وما يفتح به عليهم.
آخر سورة النساء، والحمد لله على التمام.
[1]) البخاري: 2735.
[2]) مسلم: 1617.
[3]) البخاري: 5588.
[4]) (ثَلَاثٌ، لَأَنْ يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا) أبوداود: 60.
[5]) أحمد: 341.
[6]) مسلم: 1617.
[7]) أحمد: 322.
[8]) مسلم: 1616.