المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (282)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (282)
[سورة المائدة:14-17].
وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ فَنَسُواْ حَظّٗا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغۡرَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ وَسَوۡفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ (المائدة:14)
ذكّرَ اللهُ أولًا المؤمنين من هذه الأمة بما أخذَه عليهم مِن الميثاق، في قوله (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ) ثم ذكرَ الميثاقَ الذي أخذه على اليهود، وما رتَّبه من عقوبةٍ على نقضِهم إياه، في قوله (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لعنّاهم) وفي هذه الآية ذكرَ اللهُ ميثاقَ النصارى، في قوله (وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَهُمۡ) وحرف الجر (وَمِنَ ٱلَّذِينَ) متعلقٌ بأخذْنَا، أي: أَخذْنا مِن الذينَ قالوا إنَّا نصارى ميثاقَهم([1])، والنصارَى جمع نصيري، نسبةً إلى النَّاصِرة، التي خرج منها المسيح عليه السلام، أو نسبةً إلى الحواريين، الذين قالوا لعيسَى عليه السلام: نحن أنصارُ الله، وفي قوله (قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) ما يدلّ على أن نسبتَهم إلى النَّصارى هي حسبَ قولهم وزعمِهم، وليسوا كذلكَ حقيقةً، فهم كفرةٌ، ليس لهم من النصرانية إلَّا اسمها، وأخذُ الميثاقِ عليهم هو ما أخذَ اللهُ عليهم من العهْد، كما أخذَ على غيرهم، بالتوحيدِ والإيمانِ الكاملِ بكل الرسل، والعملِ بالتكاليف، وما جاءهم به كتابُهم الإنجيلُ (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) حلَّ بهم ما حلَّ باليهود مِن تركِ دينهم، وقد تقدمَ تفسير (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) المتعلق باليهود، والإغراءُ في قوله (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) من الإغراءِ بالشيءِ، وهو تحبيبُه وتحسينُه للغير، ليحرصَ عليه، ويتعلق به، ويلتزمه.
وضُمّنت (أَغْرَيْنا) معنى ألْقَينا، ولذلك تعلقَ بها الظرفُ (بَيْنَهُمُ)؛ ليفيد أن هذا الإغراء بالعداوةِ والبغضِ حاصلٌ لكل طرفٍ منهم تجاهَ الآخر، فرق النصارى واليهود، وداخلَ الفريقِ الواحدِ فيما بينهم، والأصلُ في الفعلِ أَغْرينا أن يُقال: أَغْرينا بهم، أي حبَّبنا لهم العداوةَ والبغضاء ليُفْرطوا فيها، ولا يقفُوا عندَ حدٍّ، و(الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ) معانيهما متقاربةٌ، إلّا أنّ العداوة مِن العُدوان، وفي اشتقاقِها معنى تجاوزِ الحدّ، ولذا هي مصحوبةٌ بانفعالٍ وفعلٍ تجاهَ الآخرين، فهي مِن أفعالِ القلوبِ والجوارحِ معا، والبغضاءُ: الكراهية، فهي مِن أفعال القلوبِ، وكل منهما يؤدِّي إلى الآخرِ([2])، وما وقعَ بين اليهودِ والنصارَى، وبينَ طوائف الفريقينِ من العداوة؛ قائمٌ إلى يوم القيامة، وإنباؤٌهم وإخبارُهم بما صنعُوا في قوله (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ) كنايةٌ عن محاسبتهم، ومعاقبتِهم على أعمالهم ونقضِهم الميثاقَ.
يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (المائدة:15-16)
الآية نداءٌ لأهل الكتاب من اليهودِ والنصارَى، بعد أن ذكّروا في الآيات السابقةِ بالنِّعم، وأقيمتْ عليهم الحججُ، أُمرُوا أن يُقبلوا على الإسلامِ، ويؤمِنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لهم إنه رسولٌ مبعوثٌ من عند الله، يوحِي إليه، ويطلِعُه على كفركم وضلالاتِكم، ولا أدلَّ على ذلك من أنّه يكشفُ لكُم ما تخفونَه مِن كتبِكم، مما لا يعرفُه إلّا رهبانُكم، فقد بيَّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما أخفوهُ من كتبِهم ومحوهُ، وذلك عندمَا أخفى اليهودُ من التوراةِ آيةَ رجمِ الزاني، وأخفى النصارَى بشارةَ نبيّهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فعليكم أن تتبعوه لرحمتهِ بكم، فإنّ كثيرًا من مخالفاتِكم، وما تبيتُونَه من مكائدَ له ولأصحابهِ؛ ترونَه يُعرضُ عنها، ولا يؤاخذُكم بها، فهو ناصحٌ لكم، واعلموا أن الإيمانَ بالرسولِ وبدينِ الإسلامِ والقرآن، نورٌ يهديكم إلى الصراطِ المستقيم، الموصلِ إلى مرضاةِ الله، فقوله (قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا) يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، وألِفُ (الكتابِ) للجنسِ، فيعمّ كلَّ الكتب، فيشملُ التوراة والإنجيل وغيرهما (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) مما كُنتُم تخفونه، فلا يفضحُكم به، وهذا يدلُّ على كثرة ما كانوا يخفونَه، ويعفو كذلكَ عن كثيرٍ منكم، مع ما تقترفونَه من الآثام في حقهِ صلى الله عليه وسلم، والنورُ هو الإسلام، والكتابُ المبينُ القرآنُ، فيهدي الله بالرسول وبالقرآن مَن اتبع رضوانَ الله، وترَكَ العنادَ، طَريقَ السلامةِ والأمان مِن عذابِ الله، والظلماتُ هي ظلماتُ الضَّلال، والنورُ هو نورُ الهداية والإسلام.
لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۚ قُلۡ فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن يُهۡلِكَ ٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَاۚ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (المائدة:17)
هذا تصريحٌ بكفرِ النصارى، لقولهم (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فقولهم: (الله هو المسيح) مِن قصرِ المسندِ إليه على المسندِ، أي ليسَ اللهُ إلَّا المسيحَ لا غيرَه، حسبَ قولهم، وسببُ قولهم هذا: أنه لما رُفعَ عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمعَ الإسرائيليون للغُلُوِّ فيه، فذكرُوا ما أوصلَهم إلى هذا القول، فقالوا لبعضهم: أتعلمُون أحدًا يُحْيي الموْتَى إلَّا الله، قالوا: لَا، قالوا: أتعلَمون أنّ أحدًا يعلمُ الغيبَ إلّا الله، قالوا: لا، قالوا: أتعلمون أنَّ أحدًا يبرئُ الأبرصَ والأكمَه إلا الله، قالوا: لا، قالوا: فما اللهُ إلا مَن هذه صفتُه، وهذا ما حكاهُ الله عنهم، ومذهبُهم الكفريُّ في اتحادِ اللاهوتِ بالناسوتِ يؤدِّي إلى هذا، وتقدم الكلامُ عليه في تفسير قولِ الله تعالى: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ)([3])، وردَّ الله تعالى عليهم هنا؛ أنّ المسيحَ وأمَّه عليهما السلام عاجزانِ، لا يقدرانِ على شيء، ولا يملكانِ أن يدفعَا عن أنفسِهما شيئًا، إنْ أرادَهما الله بضرٍّ أو هلاك، ومَن كان عاجزًا لا يكونُ إلَاهًا أبدًا، وقوله (فَمَن يَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔا) الفاء فيه للعطف على قولهم (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) والاستفهام في (مَن يَمۡلِكُ) لنفي قولهم السابق (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) وإنكارِه، أو الفاءُ واقعة في جوابِ شرطٍ مقدرٍ، أي: إن كانَ ما تقولونَ من أنّ اللهَ هو المسيحُ (فَمَنْ يَمْلِكُ) و(يَمْلِكُ) تكون بمعنى يمنَع، أي: فمَن يمنعُ من عذابِ الله شيئًا مِن المنعِ، مهما كان صغيرًا، على حذفِ المضاف، وتنكيرُ (شَيْئًا) للتقليلِ، ومن لا يملكُ القليلَ لا يملكُ الكثيرَ بالأَوْلى، أو بمعنى يقدِر ويستطيعُ، أي: فمَن يقدرُ أو يستطيعُ إمساكَ شيءٍ من قدرةِ الله تعالى (إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) أو يردّها؟ لا أحدَ يستطيع، وهذا دليلُه المشاهدة، فالنَّاس يَرَوْن هلاكَ من حضرَ أجلُه مِن البشر والأمم والحضارات مستمرًّا، لا يتوقفُ، فمَن الذي استطاعَ أن يمنعَ شيئًا من ذلك، والمسيحُ وأمه عبدانِ لله، لا يخرجانِ عن ملكِ الله في السمواتِ والأرضِ وما بينهما، ومَن كانَ كذلك داخلًا في ملكِ الله، لا يستطيعُ أن يخرجَ عن ملكه وقبضتهِ، ومن لا يقدرُ على ذلك لعجزه، أنَّى يكونُ إلَاهًا، فاللهُ – مع واسعِ ملكه – على كلِّ شيءٍ قديرٌ، لا يعجزُه شيءٌ.
[1] ) ويصح أن يكون (من الذين قالوا) خبرًا مقدمًا، وأخذنا ميثاقهم صفة لموصوف محذوف مبتدأ مؤخر، تقديره: قوم أخذنا ميثاقهم، وضمير ميثاقهم يعود على الموصول، وهو (الذين قالوا إنا نصارى).
[2] ) فبين العداوة والبغضاء عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في عدوٍّ مبغَض، كعدوِّ الدين الذي يقاتلُ المسلمين، وتنفردُ البغضاء فيمَن بغضته لانحرافه، ولا زلت تحرص على هدايته، وتنفرد العداوة فيمن أراد أخذ مالك بسرقةٍ ونحو ذلك.
[3]) النساء: 171