المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (284)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (284)
[سورة المائدة:24-29].
قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ (24)
أكّد قوم موسى على إعراضِهم وخوفهم بما لا مزيدَ عليه، فقالوا (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا) أكدوه بثلاثة مؤكدات، إنّ ولن وأبدًا (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا) هم يعلمون على الحقيقة أن موسى عليه السلام لا يذهب هو وربه لقتال الجبابرة نيابةً عنهم، وإنما قالوا ذلك استخفافًا، بدليل قولهم بعد ذلك (إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) فلم يكتفوا بالعصيان، بل أضافوا إليه الاستهزاء، ويمكن أن يحملَ قولهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا) على أنهم طلبُوا من موسى عليه السلام معجزةً، تكفيهم مهمةَ عدوِّهم كما تعوَّدوا؛ كلما اشتدَّ عليهم أمر سألوه أن يدعوَ ربه، بأن يكونوا طلبوا منه هذه المرةَ أن يهلكَ الجبابرة، ويدخلُوا الأرضَ المقدسةَ دون قتال.
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِي وَأَخِي فَٱفۡرُقۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ (25)
(إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) لا أملك إلا أمر نفسي، وأمر أخي، وقد كان مع موسى وأخيه عليهما السلام رجلانِ يوافقانه، ولكنه عندما بثَّ شكواه إلى ربه من خذلان قومه قال (رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) ولم يذكر الرجلين؛ لأنه في معرض الشكوى من قلةِ الموافق له، فشبهَ حالهُ لقلةِ النصيرِ بحالِ من لا يملك إلا نفسَه وأخاه؛ لأنهما لن يُغنيا عنه شيئًا (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) افرق بيننا وبين الفاسقين، الذين عصوا أمر الله بجهاد عدوهم، لا تشملنا معهم، ولا تأخذنا في الدنيا بعقاب يعمنا معهم، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً)([1])، أمّا في الآخرة فنعلم أنه: (كُلُّ نَفسٍ بِمَا كَسَبَت رَهِینَةٌ)([2])، (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ)([3]).
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيۡهِمۡۛ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗۛ يَتِيهُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَٰسِقِينَ (26)
(يَتِيهُونَ) يسيرونَ ضالّين متحيرين، لا يهتدون، والتّيه بكسر التاء وفتحها المفازة، وقوله (أَرْبَعِينَ سَنَةً) يصح تعلقه بـ(مُحَرَّمَةٌ) فيفيد أن حرمانهم من دخولها مؤقتٌ بهذه المدة، ثم يدخلونها، ويصح تعلقه بـ(يَتِيهُونَ) فيفيدُ أن حرمانهم كان مستمرًّا، كما قالوا (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا) وعلى هذا فلم يدخلوها هم، وإنما دخلها أولادُهم مع يُوشَع عليه السلام، بعد موتهم وموتِ موسى عليه السلام، وتحريمها عليهم استجابة من الله تعالى لدعاء موسى عليه السلام عليهم (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فكان عقوبةً عاجلةً لهم، بأن الله حرمَ عليهم دخولها (أَرْبَعِينَ سَنَةً) وتركهم تائهينَ في رقعةٍ صغيرةٍ من الصحراء، لا يهتدونَ أن يخرجوا منها، كلما مشوا إلى جهةٍ وجدُوا أنفسهم في المكان الذي ارتحلوا منه، وليس لهم فيها ما يظلُّهم من حر الشمس، ولا ما يطعمُهم من الجوع، فأظلهم الله بالغمام، وأنزلَ عليهم المنَّ والسَّلوى طعامًا، وأخرج لهم من الحجر الذي معهم ماء (فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) لا تأسَ: لا تحزن، من أَسِي كفرِح، أي: لا تحزنْ عليهم، فهم أحقاءُ بما نزل بهم.
وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ (27)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) عطف قصة ابني آدم على قصة قوم موسى عليه السلام، وعصيانهم أمر دخول الأرض المقدسة، لما في القصتين من عبر، وليخلص الكلام – بعد قتلِ ابنِ آدم أخاه – إلى عددٍ من أحكام الجرائم الأخرى، على الأنفس والأموال؛ جريمة الحرابة والسرقة، والقصاص في النفس والأطراف، والخطاب في قوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) للنبي صلى الله عليه وسلم (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) خبرَ ابني آدم، وابنا آدم علمٌ على معينينِ، هما قابيل وهابيل، وليس المراد بهما الجنس من ابن آدم، الذي يطلقُ على كل فردٍ من أفراد البشر، وقوله (بِالْحَقِّ) في موضع الحال، والباء للملابسة؛ اتل عليهم خبر ابني آدم ملتبسًا بالحق، والحقُّ يطلقُ على الصدق، وهو الخبرُ المطابق للواقع، ويطلق على الخبرِ الصحيحِ المثبت، المقابلِ للباطل، فالخبر الصادقُ الثابتُ الصحة في هذه القصة، هو ما جاءَ في القرآن، لا ما جاءَ في غيره، أو فيما أضيفَ إليه من الإسرائيليات (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) قدم كل واحدٍ منهما قربانًا، والقربانُ مصدرٌ كالغُفران، مَا يتقربُ به إلى الله من ذبيحةِ نسكٍ أو صدقةٍ وصلاة، أو عبادة غيرها، وفي هذه القصة قالوا: كان قابيلُ صاحبَ زرع، فتصدقَ بقربانه من زرعه، وهابيلُ صاحبَ ضرع، فكان قربانه مِن نَعمه (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) وهو هابيل (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو قابيل، فثارتْ ثائرةُ الغيرةِ والحسد، ممَّن لم يقبل الله منه، والحسدُ عاقبته وخيمة؛ لأنه في معنى الاعتراضِ على حكم الله (قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) هذه بداية الحوار بين المقتول هابيل وقاتله قابيل، قال هابيل لأخيه: إنما يتقبلُ الله من المتقين، إنكَ أُتيتَ مِن قِبل نفسك، فَلَو اتقيت الله لكنتَ أنت المقبول، فلِمَ تقتلني بذنبٍ أنتَ فاعلُه؟! فمَن تحدثهُ نفسُه بالحسد – لو كان عاقلا – بدلَ أن يحسد، كان عليه أن يصلحَ حال نفسِه، ويجتهد في تحصيل ما سبقَه به المحسود، فيسلم له دينه، وتسلم له دنياه، ولا أقبح من أن كانت أول جريمة قتلٍ وقعت في بني آدم سببها الحسد.
لَئِنۢ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقۡتُلَنِي مَآ أَنَا۠ بِبَاسِطٖ يَدِيَ إِلَيۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (28)
(لَئِنْ بَسَطْتَ) اللام في لئن موطئة، داخلة على قسم محذوف، وإن شرطية، وبسط اليد: مدُّها، وقد يكون بالخير، كما في قوله: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)([4])، وقد يكون بالشر والقتل، كما هنا، وكما قال تعالى: إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوٓاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ)([5])، والمعنى: لإنْ مددتَ إليَّ يدكَ لتقتلنِي، ما أنا بباسط يديّ إليك، فقوله (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ) جواب القسم (لَئِنْ بَسَطْتَ) قائم مقامَ جواب الشرط، ولو كان (مَا أنَا) هو جوابُ الشرط لاقترنَ بالفاء؛ لكونه جملةً اسميةً، وكان الجواب جملةً اسميةً مخالفة للشرط (بَسَطْتَ)؛ لأنَّ الاسمية تفيد ثبوت الوصف للقائم بالفعل ودوامه، فكأنه يقول: ما أريدُ أن يثبتَ لي هذا الوصفُ الشنيعُ بالقتل، وقال (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ) ولم يقل: ما أنا بقاتل؛ لأنه أراد أن يتبرأَ من مقدمة فعلِ القتلِ، فضلًا عن القتل نفسه (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) تعليلٌ لامتناعه من قتال أخيه؛ لأَنِّي أخاف الله رب العالمين، فالتقوى التي جعلتْ قربانَه يُتقبل؛ هي التي تمنعُه أن يقتلَ آخاه، فلا يدافعُه عن نفسه، حتى لو أرادَ أن يقتله.
إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوٓأَ بِإِثۡمِي وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلنَّارِ وَذَٰلِكَ جَزَٰٓؤُاْ ٱلظَّٰلِمِينَ(29)
علةٌ أخرى لامتناعه عن قتله، وظاهر قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) أنه أرادَ لأخيه الإثم، وهذا ينافي التقوى، فإنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يريدَ الإثم لغيره، كأن يريدَ له أن يسرقَ أو يقتلَ، فالمراد من قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) لازمُ هذا القول، وهو ألّا يكونَ عليه إثم، هذا فيما يتعلق بالإرادة، أما من حيث وقوعُ الإثمين على القاتلِ فمعناه: لو فرضَ أني فعلتُ ودفعتُ عن نفسي، فالإثمانِ يقعانِ عليك؛ أما إثمُك فظاهرٌ، وأما إثمِي فلأنك كنتَ السبب، ومَن يبدأ بالسببِ يبوء بالإثم، كما في المتسابّينِ، إثمُهما على البادئ، ما لم يتجاوز الثاني الحدَّ، في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (المُستَبَّان مَا قَالا فَعلَى البَادئ، مَا لَم يَعتَد المَظلومُ)([6])، أو أن المعنى: إني بامتناعِي عن قتلك إنْ قتلتني؛ فما كانت لي من آثام تتحولُ عليك، وتحملُها عني مع إثمك، لظلمِك إياي، كما دلَّ عليه حديثُ القصاص من المظالم، ومن هذا المعنى قولهم: “ما تَركَ القاتلُ للمقتولِ ذَنْبا” (وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) وتكون بذلك من الظالمين.
[1]) الأنفال: 25.
[2]) المدثر: 38.
[3]) الأنعام: 164.
[4]) الإسراء: 29.
[5]) الممتحنة: 2.
[6]) الأدب المفرد: 423.