المنتخب من صحيح التفسير- الحلقة (285)
بسم الله الرحمن الرحيم
المنتخب من صحيح التفسير
الشيخ الصادق بن عبد الرحمن الغرياني
الحلقة (285)
[سورة المائدة:30-29].
فَطَوَّعَتۡ لَهُ نَفۡسُهُ قَتۡلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ (30)
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) أي بعد أن بلغته الموعظة، كأنَّ نفسه خاصمته، فكانت بداخله رغبة في القتل، يدفع إليها الحسد، وموعظة ممانعة، لإقامة الحجة عليه، وبعد معالجة وصراع داخل نفسه، طوعت له نفسه قتل أخيه، انقادت للقتل، فتغلبت نوازع الشر عليه، وجعلته طائعا الانتقام من أخيه (فَقَتَلَهُ) وبقتله (أَصْبَحَ) صار (مِنَ الْخَاسِرِينَ) وحذف معمول أصبح ليدل على عموم الخسارة، فهي خسارة ندم في الدنيا على قبح فعلته، غير المسبوقة في وقته، وخسارة الآخرة أَن باء بإثمه وأثم من فعل فعلته من بعده، إلى آخر الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا – وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ دَمِهَا – لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ أَوَّلًا)([1]).
فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابٗا يَبۡحَثُ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُرِيَهُ كَيۡفَ يُوَٰرِي سَوۡءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ أَعَجَزۡتُ أَنۡ أَكُونَ مِثۡلَ هَٰذَا ٱلۡغُرَابِ فَأُوَٰرِيَ سَوۡءَةَ أَخِي فَأَصۡبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ (31)
كان قتلُ قابيلَ هابيلَ أولَ حالة قتل وقعتْ، فتحير القاتل بعد القتل؛ ماذا يفعل بجثة أخيه؟ (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ) ألْهم الله الغراب أن يطير ويقع حيث كان قابيل، بحيث يراه، وجعل الغراب يبحث في الأرض، يحفر الأرض برجليه ومنقاره؛ ليدس فيها طيرًا آخر قتله (لِيُرِيَهُ) الضمير يعود على اسم الجلالة، أي: لأجل أن يري الله قابيل كيف يواري جثة أخيه، ويصح أن يكون الضمير عائدًا إلى الغراب، فيكون إسناد الإراءة إليه مجازيًّا (كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ) كيف للاستفهام في موضع الحال من ضمير يواري، وقدمت الحال على صاحبها لأن (كيفَ) لها الصدارة، وجملة (كَيْفَ يُوَارِي) في محل مفعول ثانٍ ليريه، ويواري: يدفنُ ويدسُّ في التراب (سَوْءَةَ أَخِيهِ) جثة أخيه؛ لأنَّ جثة الميت تسوءُ ناظرها، ولذا سميت العورة سوءة (قَالَ يَا وَيْلَتَا) نداء استغاثة، والأصل فيه أن يؤتى بلام الاستغاثة بعد حرف النداء مفتوحة، فحذفت اللام، وعوض عنها بالألف الأخيرة، والويل: الهلكة والموت، فلتحسره وشدة ندمه نادَى بهلاكه، وبالموتِ أن يحضره، ولا ينادي بالموت إلا مَن كان في حالة أشدّ مِن الموت، والاستفهام (أَعَجَزْتُ) للتعجب، تعجب من حاله حتى استغاث ونادى بحتفه (فَأُوَارِيَ) عطف على (أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ) وقد لامَ نفسه وتعجبَ منها، كيف لم يهتدِ لما ألهمَ الله إليه الغراب، فلم يقدر أن يكون مثله، فيدفن أخاه كما دفن الغراب ضحيتَه (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) الندم: أسًى على فعلٍ لم يتفطنْ فاعله إلى عواقبه، ولم يقلْ فندمَ، بل قال أصبح من النادمين؛ لأنه لشدة ندمه صارَ الندم صفةً قائمة به ملازمةً له، وهذا لا يفيده الفعل ندم، وإنما تفيده الإسميةُ كما تقدم.
مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ (32)
(مِنْ) ابتدائية (أَجْلِ) الأجل بالسكون فعله أَجَل، مِن بابِ ضرَبَ ونصَر، معناه التسبب والجناية (ذَلِكَ) الإشارة إلى ما تقدم من قصة قتل أحدِ ابني آدم أخاه، وقوله (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) الأرجح تعلقه بكتبنا بعده، لا بالنادمين؛ لأن الفاء في قوله (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) بينت سبب ندمه، فلا يحتاج إلى تعلقه بما بعده (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا) أنه الهاء ضمير الشأن، و(مَنْ) شرطية، وجوابها (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (بِغَيْرِ نَفْسٍ) الباء للمقابلة، نفس قتلت لم تقابلها نفس، والجار والمجرور (بِغَيْرِ) في موضع الحال، أي: قتل نفسًا حالة كون القتل ظلمًا وعدوانًا، دون مقابلة قتل نفس أخرى قصاصًا لها (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) عطف على المضاف المقدر، أي بغير قتل نفس (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) والفساد في الأرض إتلافُ النفسِ والمال، أو ما يؤدي إليهما، والمعنى: بسبب ما وقع مِن قتلِ أحدِ ابني آدم أخاه ظلمًا، ومن جرّائه وجنايتهِ؛ قضينا (عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) بتغليظ حرمة القتل، وقلنا لهم أنَّ مَن قتل نفسًا بغير نفسٍ عدوانًا وظلمًا، فكأنما قتل الناس جميعًا، وما كتبه الله على بني إسرائيل من التشديد في حرمة القتل، هو حكمٌ يعمّ المسلمين، قال ابن عباس رضي الله عنهما: “إنّ كلَّ ما ذمَّ الله عليه أهلَ الكتاب فالمسلمونَ محذرونَ مِن مثله”، وفي قوله (أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) تنبيه على نوعٍ آخرَ من جرائم القتل، هي أشدُّ ضررًا على الأمة، جرائم الحرابةِ وقطع الطريق، وخطفِ الناس من بيوتهم أو مِن الطرقات، تحتَ تهديد السلاح، أو قتلهم على الهويةِ القبلية والناحية، أو التوجهِ الفكري، أو التطهيرِ العرقي، أو غير ذلك، مما يعدُّ من الفساد في الأرض، ذكرت الآية أنّ من فعل شيئًا من ذلك وقتلَ نفسًا واحدة (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) وفي هذا التشبيه من التغليظ والتخويف ما لا مزيدَ عليه، ومعناه: أنّ مَن تجرّأ وكسرَ حرمة النفس المعصومة، وأسقطَ هيبتها، واستسهلَ القتلَ ولو مرة، لم يبالِ بعدها بقتلِ ما قدرَ عليه من الأنفس، ولو أتى على الناس جميعًا، فمن تجرّأ وقتل نفسًا واحدةً عدوانًا، هانَ عليه القتل، فلا يأبه بعد ذلك بشيءٍ من الأنفس، فالتشبيه بقتل الناس جميعًا هو في أصلِ حرمة الدماء، فإن حرمتها واحدة، استباحة الواحد كاستباحة الجميع، وأيضًا في هذا التشبيه تنبيهٌ للأمة، عليهم أن يعدُّوا القتل بغيًا وعدوانًا على واحدٍ منهم هو موجه إليهم جميعًا، فلا يتهاونُوا في العمل على كفِّ الجاني، وتعقبه وملاحقته، والأخذِ على يديه بالقصاص منه، وإقامة حدود الله عليه، وألا يُؤوُوه، ولا يقدمُوا له ملاذًا ولا حمايةً، ولا ينتصروا له باسم قبيلتهِ أو ناحيتِه وبلدتهِ أو جماعته، أو انتمائه الفكريّ وحزبِه، على كل مسلم يؤمنُ بالله واليوم الآخر أنْ يفعل ذلك، ولا يقف وراءَ أي ظالمٍ يسنده ويدعمه؛ ليقيم على ظلمه، كل مسلمٍ مخاطب بذلك، على حسب قدرته وتأثيره وسلطانهِ وبسطةِ يده، مِن أفرادٍ وأعيانٍ وحكماءَ ونُخب، ومسؤولين في الإدارات والسلطات السياسية والإدارية والقضائية، وعامة الناس، فإنهم جميعًا مخاطبُون بأن يتبرؤُوا من كل قاتلٍ ومارق، وخارجٍ عن القانون، ولا يتستَّروا عليه، ولا يحمُوه، قال صلى الله عليه وسلم: (… مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ)([2])، وألّا يقِفوا وراءَ ظالم ويدعمُوه، مع قيامه على ظلمِه، وتهاونه في دماءِ الأبرياء، وأن تكون موالاتهم ونصرتُهم وتأييدُهم على الإيمانِ وحده، ولمَن يعملُ على صلاح الدنيا والدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ آلَ أَبِي لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ)([3]) (وَمَنْ أَحْيَاهَا) أي: استنقذَها مِن الموت، وتسببَ في الإبقاء عليها، بأن منع الاعتداء عليها، فنصر مظلومًا حتى نجاهُ ممّن يريده بسوء، أو عفى عن قاتله، أو قدم لأحد من العون أو الحماية أو الدواء ما حفظَ له حياته (فَكَأَنَّمَا) استنقَذَ نفوس (النَّاسَ جَمِيعًا) والمقصود تعظيم حرمة النفس، بالترغيب في حفظها، والتوعد على العدوان عليها (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) على الرغم مِن البيانِ الواضحِ لبني إسرائيل، الذي جاءتهم به الرسل، بتعظيم حفظِ النفوسِ وحرمةِ الدماء، ومع ذلك كثيرٌ منهم أقامَ على الفسادِ والقتلِ، ولم يتبْ ويكفّ، ومِن فسادِهم في الأرضِ قتلُ الأنبياء، فقتَلوا الأنبياءَ حتى أسرفُوا، وتجاوزُوا في ذلك الحدَّ.
[1]) البخاري: 7321.
[2]) البخاري: 1870.
[3]) البخاري: 5990، مسلم: 215.